رواية "مدائن الأرجوان" للكاتب السوري نبيل سليمان، الصادرة عن دار الحوار للنشر والتوزيع عام 2013، نقرأ من أجوائها:
في الشرفة لبث واصف عمران يتفرج بحياد على باص الحضانة وهو يبتعد بثريا: أليست ابنتك أيها الوغد؟
أنت هنا
قراءة كتاب مدائن الأرجوان
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
مدائن الأرجوان
الصفحة رقم: 5
وما إن عاد الرصاص يلعلع في فجر المدينة الآمنة حتى غدا واصف كالخرقة. وكانت رمزية قد غادرت الشرفة، وكان واصف قد شيعها بحمد الله على أنها تركت له وحده هذه الغرفة، ونقلت سريرها إلى غرفة ثريا التي لم تكن مشيتها قد استقامت بعد: لماذا تمنى إذن أن يعود سريرها إلى الغرفة التي أخذت لعلعة الرصاص ترجّها رجّاً؟
لا لا. هذا ليس رصاصاً. هذا ـ على الأقل ـ قنابل تدك دكاً فجر المدينة التي لم تعد آمنة: فكّر واصف وهو ينقذف إلى الغرفة التي قذفته إلى الصالون، وإذا بثريا تدعك جفنيها، ثم تتثاءب، ثم ترمق أباها بحياد مثلما سترمقه رمزية حين تظهر حاملة حقيبة صغيرة وكيساً أصغر، معلنة بجهامة:
ـ أنا وثريا ببيت أهلي.
وكل ذلك إذن قد جرى البارحة. أما الآن، فقد صحا واصف على السكون الصافي والضياء الساطع والوحدة النبيلة: بلا زوجة، بلا بنت، بلا رصاصة، بلا قنبلة، بلا اللاذقية كلها.
نفض الرجل يده من كل شيء، وراح يتقافز بين السرير والحمام وفنجان القهوة ونافذة المطبخ والخزانة والدرج ومدخل البناية الذي فغر كأنه قبر طري يلفظ حمله التافه، أي يرمي هذا الرجل في شارع المالكي كما رماه البارحة، ولكن ليس في مثل هذه الساعة المبكرة، وليس بمثل هذه الخفة: هل أنت فرح حقاً برحيل ثريا ورمزية أيها الوغد؟
يا سيدي فرحان ونص: انتفضت خطواته مؤكدة، وأضافت قبضته وهي تتكور أن الأمان في بيت أهل رمزية أكبر، حي الفاروس أكبر أماناً من حي القلعة، وحي القلعة أكبر أماناً من حي الرمل، بل حي الرمل أكبر أماناً من حي الصليبة، وما دامت اللاذقية كلها ترفل بالأمان، فما كان البارحة إذن لم يكن: بماذا تهرف أيها الوغد؟
* * *
ظل السؤال يضعضع واصف وينعطف به من شارع المالكي يميناً ويساراً، ليقطع الزقاق تلو الزقاق حتى تطلع له ثانوية جول جمال. ومن خلل صخب الطلاب تراءى لواصف أن صوت حميه العجوز الأثرم يقترب مباهياً:
ـ هنا درست. كنت في البروفيه، هذه التي تسمونها اليوم الشهادة الإعدادية، عندما كان حافظ الأسد وأدونيس في البكالوريا.
وصار صوت العجوز صدى حنوناً بعدما تذكر أن هذه الثانوية حملت اسم جول جمال عندما صار هو عريساً، ولكن في الأربعين.
جول جمال بطل وبيستاهل: تمتم واصف بما كان عبد الرحمن هلال يردده كلما تذكر جول جمال. كان عبد الرحمن يردد أيضاً أن جول جمال تخضب بالأرجوان كما يليق بالفينيقي. وكرمى لواصف كان يضيف أحياناً: كما يليق باللاذقيّ. وفكر واصف وهو يتقدم نحو مقهى الاسكندرية أن الدم هو ما تخضّب به جول وعبد الرحمن: الأول في البحر والثاني في عيادته، الأول ليرد البارجة الفرنسية عن مصر والثاني ليرّد.. ليرد من عن سورية؟
أسهد السؤال واصف ليالي بطولها منذ ذلك الصباح الذي سماه صباح الأرجوان أو صباح عبد الرحمن. كان الجواب يصدعه مرة: الإخوان المسلمون، ومرة: المخابرات، ومرة: عملاء صدام حسين، ثم باتت للجواب أخيراً صيغة واحدة: عبد الرحمن هلال يرد عن سورية من قتلوه. وعندئذٍ غط السؤال في بيات عميق، مثله مثل واصف الذي كان يغط في نوم عميق حين أيقظته ثريا بعيد التاسعة باكية، في صباح تائه بين ربيع يودعه وصيف يلاقيه:
ـ بابا: ما إجا الباص.
وثريا إذن لن تذهب إلى الحضانة. وسوف يكون على واصف أن يرعاها حتى تعود رمزية من المديرية ـ مديرية الصحة ـ بعد ست ساعات. لكن رمزية عادت بعد ست دقائق تهدر:
ـ الطرقات مقطوعة يا واصف. لا تكسي ولا باص. خفت أن يأخذوا ثريا إلى الحضانة. لو رحتِ يا ماما كيف كنتِ سترجعين؟ حاولتُ الوصول إلى المديرية. عجزت يا واصف. يقولون: الشيخ يوسف صارم بسلامتك.