أنت هنا

قراءة كتاب عشـاق السماء والدماء

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
عشـاق السماء والدماء

عشـاق السماء والدماء

رواية "عشاق السماء والدماء"، قليلٌ من الأشخاص مَنْ سمع باسمها في رحاب استانبول هذه، وليس هناك أحد سوى فرقة الإنكشارية مَنْ ذهب إلى هناك ورآها بأم العين، مدينة تسمى (بسارابيا Besarabya) تُحاذي أراضي «كفرة» موسكو في الشّمال.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 2
والمكان الذي أجلس فيه الآن، هو فسحة البهو في الطّابق الثاني لهذه التكيّة، والشّخص الذي أعيش في حضرته أحاسيس غريبة هو شيخ الطّريقة للتّكيّة (أحمد بابا) الذّي يعد مجلسه مفتوحاً للجميع كلَّ لحظة. وهو لا يزال حافزاً لي على حبّ الاطلاع الدّائم بعد هذه التّجارب الكثيرة التي شهدتها. إنّه قرّة عيني (أحمد بابا).
وراء ظهري مباشرة، على الجدار، ثمّة إشارة، كنت أظنّها خيالاً، يقولون إنّها عبارة عن حرفَي واو (وو) مزدوجين. هذه الإشارة الرّمزية رسمت لحياتي وجْهةً ثابتة. أخيراً بدأت أفهم مضمون ذلك عن قرب.
تنتصب بيني وبينه مائدة صغيرة دائرية. أنا جالس مقابل سيّدي تماماً.
وقد جلس معنا درويشان من مريديه، يشاركان في المجلس. يا لها من محبّة وأُنس. خيّم صمت طويل إلا ما تهمسُ به عيوننا، لاشيء يُسمَعُ إلا عبارات مثل «دام النور» و«فداء للعشق» أثناء رفع كؤوس الخمر الصّغيرة. إذا رأى أحدهم من الخارج هذه الخِدمة الكبيرة للمائدة ظنّ أنّي شخصٌ مهمٌ رفيع القدر. لا، لست كذلك. أعرف هذا. ولكن الغريب في الأمر، أنّني حتى أنا ـ عبدكم الفقير ـ أتخيل نفسي شخصاً مهمّاً ومعتبراً.
لا بدّ أنّنا قلنا شيئاً. نحن لا نجلس صامتين هكذا. تساءلنا عن أحوالنا. قال أحمد بابا: إن شاء الله نظيري في وجد ونشوة.
قلّت: «نعم، والله أيّها الأولياء الصّالحون». قال: «إن شاء الله سيدنا كبير الغرفة في حبورٍ أيضاً». قلتُ: «بلى والله في حبور. جئت لكم بابتهالات العشق». تَمْتَم وكأنّه يقول: «جيّد. جيد...». ولكن لم تنفكّ عقدة ألسنتنا أيضاً. لعلّ ريح الجنوب هي التي فعلتْ بنا هكذا. والبحر، منذ يومين يهيج في السّاحل مثل المجنون، يترك رائحة زَنخِةً حامضة عميقة. والأهالي مثل سمك (اللودس) فاترون، صامتون، تعساء. لعلّ ريح الجنوب هي التي كانت تعرقل امتياحي من منهل العِرفان لشيخي. نعم، مهما يكن، فهو أيضاً بشرٌ، له وضعُه، ومزاجه. وهذا المزاج قد يتأثّر أيضاً بريح الجنوب، يفتر، يسأم. ولكنْ إذا لم يكن السبب ريح الجنوب يا تُرى، فما هو؟! قد يكون شيخي لا يألو جهداً في إمدادي، وإنما النقّص في ذاتي التي لا تختزن المدد الرّوحي. كان إناء روحي طافحاً لا يسع، تصّورْ أنّ الإناء الجديد لا يسع المزيد، شيئاً؟! كان نصيبي هذا اليوم بهذا القَدْر. وصلت إلى الينبوع الذي كان ماؤه بهذا القدْر. طلبْت الاستئذان بوضع يدي اليُسرى على المائدة، ويدي اليمنى على اليسرى، ونهضت، فنهض هو أيضاً، ونهض الدرويشان بدورهما. قبّلت مِنكبه الأيمن ومِنكبه الأيسر، ثم منكبه الأيمن ثانيةً، وصدرهُ. فعلت ذلك ثلاث مرّات. تلوتُ في كفّه ثلاثة ابتهالات قصيرة، وانسحبْت في المكان خطوة خطوة.
التاريخ اليوم هو عام 1780 من ميلاد سيّدنا المسيح، في 12 أيار 1780م.
ما إن خرجت إلى صديقة التّكيّة لـ (أريكلي بابا) حتى تولّدت في جوانحي فرحة عارمة، لابدّ أنها من قسمة هذا اليوم.
وكما كنّت أفعل بعد خروجي من التكيّة كلّ مرة، توجّهْتُ إلى شاطئ البحر الذي أهاجه ريح الجنوب في جنون وصَخَب. حجَلْتُ في مشيتي مثل الأطفال، تركتُ هبّات ريح الجنوب تتغلغل إلى جوانحي في عنف، تركتُ النَّفَسَ الدّافئ يسري ليشمل كياني كلّه، واتخّذتُ مساراً لي من تحت سور «يدي قوله» تجاه بوّابة «صاماتيا» بين الحصى والصّخور.
إذا تركتم (باب صاماتيا) وراء ظهوركم، وانتصبْتم أمام مرتقى الطريق الصاعد الذي يتلوّى بين المحلاّت النّصرانية التي تحيط بكم من كلا الطرفين، ولم تعرّجوا على (قوجه مصطفى)، ومِلْتم قليلاً على (يدي قوله)، فإنكم تجدون أنفسكم في الحيّ الإسلامي (علي فقيه). وعند الانتهاء من هذا الحي، يبرزُ حيّ (حاجّي حمزة). وهذا أيضاً حيٌ إسلاميّ.
إذاً ثمّة بناء خشبيّ صغير مؤلف من طابقين، ينتصب في حديقة واسعة، عند ملتقى الحيَّين. وفي هذا المبنى يعيش هذا العبد (العبد الفقير). أمّا صاحب البناء فهو رئيس المهجع الثامن والثلاثين الذي يضمّ الكتيبة التّابعة لتشكيلة الجند الإنكشارية (2) والقيّم (الكتخدا) المسؤول عن أجنحة الخدم السّلطانّي، المسمّى (الكتخدا عارف آغا) ذا النفوذ والتوقير الأعظم بين الأغوات، هذا الذي لا يستطيع الفأس أن تقصّ شاربه، يسكن في هذا الصّرح، ليكون باب الفضل الإلهيّ لهذين الحيّين.
أعرف الآن أنّكم ستقولون: ومن تكون أنت أيّها الرّجل؟.
تسألون عن شأن هذا الفقير ـ لا تستعجلوا ـ لكلّ شيء سياقه ودوره الذي يأتي في أوانه. هذا لا يستدعي العجلة في هذه المملكة العثمانيّة. العجلة تأتي بالشّؤم. ليكن الله حافظاً. فالشّؤم في الإيالات العثمانية يجرّ الوبال عليها.

الصفحات