رواية "عشاق السماء والدماء"، قليلٌ من الأشخاص مَنْ سمع باسمها في رحاب استانبول هذه، وليس هناك أحد سوى فرقة الإنكشارية مَنْ ذهب إلى هناك ورآها بأم العين، مدينة تسمى (بسارابيا Besarabya) تُحاذي أراضي «كفرة» موسكو في الشّمال.
أنت هنا
قراءة كتاب عشـاق السماء والدماء
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

عشـاق السماء والدماء
الصفحة رقم: 4
تتالت شهور، ونحن نعدّ الأيّام والأسابيع. وإذْ بدأتُ أدرك أننّي سأقضي بقيّة عمري في حظيرة من القلعة، فقد توسّمْتُ علائم تنبئ بتغيّرات ما قد تبدو هامّة، من الأصوات التي تأتي من الخارج، وصرخات التكبير «الله الله!» القويّة المدويّة.
ولأنّنا كنا نترقب نبأ إنقاذ الجيش الروسي لنا بفارغ الصّبر، فقد كنّا نعدّ الأيّام بحماسة كبيرة.
كان هو الزّمن اليوم الثاني عشر من شهر آب من عام 1769 م. في ذلك اليوم كان الأتراك قد ألحقوا بالرّوس هزيمة نكراء، فبدأ الروس بالانسحاب. لم يبق إذن أيّ بارقة أمل للخلاص.
في الغد عَلِق بصري ثانيةً بوجه التركي الذي رأيْته آخر مرّة، قبل أن أجد نفسي هنا، باستثناء الكوابيس التي رأيته فيها.
كانت قد مضت برهة قصيرة على أذان صلاة الفجر. وبمجرد سماعنا لأصوات الجلبة أمام الباب، انفتح الباب وفي اللحظة نفسها دخل جنود الإنكشارية الستّة المدجّجين بالأسلحة. واصطفوا عند جانبَيْ الباب صفّين: ثلاثة ثلاثة.
وتقمّصوا جدّية مصطنعة تبعث على الضّحك. لولا أنّني كدْت أموت فزعاً، لضحكتُ أنا أيضاً. ثم برزَ في الباب ذلك الوجه الذي يعدّ أفظع الكوابيس التي رأيتْها ثلاثة أشهر كاملة. هذا الرّجل الذي خمّنت أنّه ضابط ذو رُتبة عالية، كان قد ارتدى ثياباً في غاية الزركشة والنظافة قياساً باللقاء الأوّل.
لقد علّق ريشاً على قبعته البيضاء، ولفّ نطاقاً حريرياً على حزام سلاحه المثبت على جذعه، وانتعل حذاءَيْن أصفرين لمّاعين، وكان على جسده قفطانٌ في غاية التّزيين. يتدلى من جنبه الأيسر سيفٌ طويل. وكان يثير الأنظار بمسدّسين مندسّيْن في حزامه، وبخنجر.
بدأتْ نظراته الجنوبيّة تجوسُنا، نحن الأسرى البائسين، واحداً تلوَ الآخر. وفي تلك اللحظة الخاطفة التي وقع طرفَه فيها عليّ، بدأت الهواجس السّوداء السيّئة تموج في رأسي. جالت نظراته، دارت حولي، تسمّرت عليّ، أشار إلى الجنود بطرف عينه إليّ قائلاً: «الأصفر». أسرع عنصران من الإنكشاريّة إليّ فوراً، فتأبطا ذراعيّ، شدّ شعري بخفّة، فتح بين شفتي قليلاً، تفقّد أسناني، ثم التفت إلى الجنديّين، قال: «خذاه».
أثناء اقتياد الجنديين لي إلى مكان مجهول تماماً، شعرت بانسياب الماء من مطرتَي الصغيرة الذّي بلّل ساقيَّ.
كنْت قد فكّرت بكلّ شيءٍ، بكلّ شيء، قد يحدث. لكنّي ما كنتُ لأعرفَ أو أتوقَّع المكان الذي ساقوني إليه، كان هذا في الواقع أشدّ ما كنت أحتاجه. لقد أخذوني إلى الحمّام! حيث حممني خادم حمام ضخم الجثّة، دلكني بليفة، بطريقة بين الضّرب والمداعبة. حمّام رائع يكفي لعدّة سنوات! ألبسوني ثياباً نظيفة، غمرني إحساس غريب، وكأنني أنا، المدعو بترو لن أعود إلى عهدي القديم أبداً.
بعد الخروج من الحمّام دلّني الخفيران على الطريق بودٍّ أقَرب إلى الصداقة، هذه المرّة بدأ يراودني إحساسٌ لأوّل مرّة بأننيّ ربما أودّع مشهد تأبّط ذراعيّ وسوقي بعنف، إلى الأبد.
كذلك شرع أحد التّركيّين، لأوّل مرة، يخاطبني بلغة ليست غريبة. كان يتكلم بالرّوسيّة. قال لي: إنّنا سنخرج في رحلة طويلة إلى الكتخدا عارف آغا، ذلك الضابط الإنكشاري على ما أظنّ، وإنني سأكون عبداً له، وإنّه قد زّف له نبأ ولادة مولود ذكر في استانبول، في اليوم الذي قبض فيه عليّ من المرج، وذكر أن ذلك كان علامة سعْد، إذ رزقه الله مولوداً ذكراً بعد حرمان طويل، وعقب ثلاث بنات، لهذا سوف يعاملني بالحسنى. وحذّرني الجنديّ في حديثه من الهرب في الطريق، وإلاّ ستكون عاقبة ذلك وخيمة.
هذه الكلمات الروسية القليلة في هذا الحوار كانت كافية لي. كم عرفْت أشياء كثيرة بهذه الجُمل القليلة. أوّل هذه المعاني المستنبطة أنّني سأظلّ على قيد الحياة. وقد توصّلت إلى هذا الاستنتاج، حين طالت حقبة أسري، وراحوا يوزّعون علينْا طعاماً منتظماً. غير أنّ الجماعة قد يغيّرون رأيهم، ولا سيما في أيّام انتصار الرّوس. وكنّا نتوقَّع كثيراً أن يعلقونا على أسوار القلعة بالحبال التي يلفونها على أعناقنا. لقد سمعنا أحداثاً كثيرة على هذا المنوال. وثانياً معرفتي أنّني سأقاد إلى استانبول، هذه المدينة التي سمعنا اسمها كثيراً من أحاديث سادتنا وأمرائنا الذين كانوا يلوّحون في كلامهم إلى أنّها ستكون لنا ثانية، كما كانت من قبْل. كانت استانبول مدينة خرافية أسطورية، مثل (تساريغورود Tsarigorod) بقممها الموشّاة بالسّديم. غير أنّي لا أمضي إليها مثل فاتح منتصر، بل كعبد ذليل لسيّد (كافر). والأمر الثّالث الذي استخلصتُه من هذه الجمل بالرّوسيّة، أنّ هذا الرّجل الشّبيه بالكابوس، أي المدعو (كتخدا عارف آغا)، هو إنسان طيّب رقيق، وأب رحيم مثل آبائنا، وخاصة حين فاض حبوراً وفرحاً بسماع نبأ ميلاد مولوده الذّكر، بعد حزنه العميق لحرمانه من الذّكور. عليّ أن أُقِرّ أن هذا الاستنتاج الثالث كان الأكثر تأثيراً، وما كنت أعلم أبداً أنّ الأمور ستنتهي إلى هذا المطاف.