أنت هنا

قراءة كتاب عشـاق السماء والدماء

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
عشـاق السماء والدماء

عشـاق السماء والدماء

رواية "عشاق السماء والدماء"، قليلٌ من الأشخاص مَنْ سمع باسمها في رحاب استانبول هذه، وليس هناك أحد سوى فرقة الإنكشارية مَنْ ذهب إلى هناك ورآها بأم العين، مدينة تسمى (بسارابيا Besarabya) تُحاذي أراضي «كفرة» موسكو في الشّمال.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 5
هذه هي المرّة الأولى التي يحدّثني فيها تركيّ بشيء من الاحترام، فلْم يفرضْ عليّ أمراً ما مثلاً. حدّثني بأدب، وأسدى لي النصيحة، إذ قال لي: «أنا من حجّاب مَولانا السلطان مصطفى خان، مصطفى الثالث، اعلم هذا اسمي يوسف، يوسف بن مُرسل، جنديٌ قديم في فرقة الجماعة الثامنة والثلاثين لمركز الجنود الإنكشارية».
لم أكن أعرف مدلول تلك المصطلحات حينذاك. ثمّ كشف عن ذراعه، وأراني إشارة منقوشة على جنب عضُده تماماً، قائلاً: ها هو ذا، وأردف: «هذه إشارة لمحفلنا. هذه تدل على رفاقنا، فلا تمّحي هذه الإشارة من هاهُنا، ونحن لا نخرج عن جماعتنا حتَّى الممات».
يبدو أنّ يوسف كان أكبر منّي عدة سنوات. كنت أستشفّ ذلك من عينيه. هيئته، أطواره توحي بأنّه يتصرّف مثل الرّجال الرّاشدين. ما زال في عينيه، في نظراته الموجهة إلى كلّ شيء أثرٌ يشي بالرغبة والفضول. لعلّ هذه الرّغبة الملّحة هي التي استحثّته على صُحْبة عبد مثلي، وإلا لما كان في أعين الراشدين حبّ للاستطلاع.
قال يوسف: «كتخدا عارف آغا هو أحبّ الضّبّاط في مجموعتنا. حتّى إنّنا نحبّه ونحترمه أكثر من قائد فرقتنا». وصمتَ برهةً، ثم استأنف بعبرة توحي بأنّه مغموم، وخجول قليلاً: «أن تكون خادماً وعبداً لمثله، فهذا شرف لعبد مثلك. قدّرْ ذلك، وتصرّفْ على أساسه. لا تُحرجْ سيّدنا الآغا».
ماذا يعني هذا؟ كيف لأسير مسكين أو عبد مثلي أن يُحرجَ أو يستصغر سيداً كبيراً مرموقاً؟ أدركت بادئ ذي بدء فداحة الخطب في عبارة «لا تحرجْ» من خلال نغمة صوت يوسف، فما عساي أن أفعل أو أجتنب فعله حتّى لا أسيء إلى عارف آغا؟ أهو غضُّ النّظر أرضاً؟ أم تحاشي الّنظر إلى عينيه؟ هل هو عَقدُ اليدين معاً إلى الأمام، أمْ ليّ العنق؟ عدمُ سبْقه أثناء المشي، أم تجنّب الكلام بصوتِ عالٍ؟! هذه أمور نعرفها هناك نحن. كنّا نتصرّف هكذا إزاء أسيادنا وأمرائنا. ما عسى أن يكون غير ذلك؟! يجب أن أتعلّم ما ينبغي فِعْله في فترة قصيرة حتّى أضمن البقاء حيّاً، أو العيش دون معاملة سيئة.
وفجأة باهتني تفكير غريب! لِمَ لا أفكّر بالهرب؟ لكن بطولتي الأخيرة أضاعت شجاعتي، فعندما أركز عارف آغا سيفه على عنقي، فكرّت بالحركات الرشيقة التي يمكن أن أقوم بها لأصل إلى بندقيتي. غير أنّ الحيلة خذلتني. كان باستطاعة عارف آغا أن يجزّ عنقي. لكنّه لم يفعل. كنتُ أعرف قيمة العبد هنا. وهناك عندنا أيضاً يُدركون قيمة العبد. ومع ذلك لم يقطع رأسي ويطحْ به. لعلّه قد ضربني حينذاك بمقبض سيفه.
لكنّ ذلك الرجل الكهل متوسّط العمر كان أخف حركة من شابّ مثلي. خذلتني شجاعتي إذاً. ولئن هربتْ فإلى أين أذهب؟ لقد بدا جلياً الآن أنّهم لن يتعرضوا لحياتي. إلى أين يمكن أن أتوجّه لوحدي؟ لا أدري مَنْ قدْ يقبض عليّ؟ وأكثر خوفي أن أقع تحت سيطرة التّتار، فالقصص التي سمعتها عن هؤلاء تجمّد دمي. كان يراودني خاطر أنّني قد أكون محظوظاً لوقوعي تحت رحمة الأتراك.
من ناحية أخرى كانت تخامرني رغبة كبيرة بأن أسافر إلى استانبول وألتقي الأتراك. كنْت أتوقُ لمعرفة كلّ ما أجهله. لكنْ ماذا سيحدث لأبي «ميشيل» وأمّي «آنيا»؟ لا يُعَد أبي رجلاً مسناً، كان قوياً بما فيه الكفاية، إنه من الأشخاص الذين لا يغتمّون كثيراً. كلّ ما في الأمر أنّه قد يزيد جرعات (الفودكا) ويهوي بقبضة يده على الطاولات بعنف أكثر، ثم لا يلبث أن يهدأ. أمّا أمّي فلا أستطيع أن أقول الشيء ذاته عنها. لعلّ وقع موتي قد يكون أهون عليها. ربّما كانت تعتقد أنني سألاقي هذا المصير. ولكنّها قد تشعر أنّي ما زلتُ على قيد الحياة. وأنا واثقٌ من أنها تذهب كلّ يوم الآن إلى الكنيسة، وتملأ جيوب (الخوارنة) ليتضرعوا إلى الله من أجل عودتي سالماً. أظنّ أنّها كانت كلّ يومٍ تحمل لهم الشّراب، والخبز، والسّمك... يا لأمي المسكينة!.
أتذكرّكمْ بكت يوم رحيلي، وهي تقلّدني سلسال الصّليب البرونزيّ هذا! إذْ عملت طقساً دينياً لهذا الصّليب، جعلت منه طلسماً لحفظي من أذى الكفّار. إذاً هذه هي ثمرة الثّقة بهؤلاء الكهّان السّكارى. لقد كان والدي محقاً في عدم الثقة بهم.
والآن الدليل المادّي الوحيد الذي يذكّر بحياتي السابقة كان هذا الصّليب المعلّق على عنقي. لم يمدّوا أيديهم إليه في الحمّام، أو يحاولوا أخذه منّي. وكلّما أردْتُ عناق أمّي، كنْتُ أحنو عليه، والآن، قبل أن أبدأ رحلتي الطويلة هذه، أستطيع أن أضمه بين كفّي في حنّو.. يا سيّدنا يسوع المسيح! كنّ معيناً لي! وفي أواخر حزيران اصطففْنا للمسير في قافلة تضمّ مئتين وخمسين شخصاً، بمن فيهم خمسة وعشرون إلى ثلاثين أسيراً ومجموعتان. كان يسير في المقدّمة ثلاثة ضبّاط فرسان بمن فيهم عارف آغا، برفقة اثنين من الجنود الإنكشارية. كان بعض الأسرى مقيّدي الأيدي، وكنتُ أنا ضمن مجموعة الأسرى غير المكبّلين. وسأفهم في الطّريق أكثر أنّ سبب هذه المعاملة المتميّزة لهؤلاء ينبع من التدّبير الخاص تجاه أسياد هؤلاء العبيد.

الصفحات