أنت هنا

قراءة كتاب عشـاق السماء والدماء

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
عشـاق السماء والدماء

عشـاق السماء والدماء

رواية "عشاق السماء والدماء"، قليلٌ من الأشخاص مَنْ سمع باسمها في رحاب استانبول هذه، وليس هناك أحد سوى فرقة الإنكشارية مَنْ ذهب إلى هناك ورآها بأم العين، مدينة تسمى (بسارابيا Besarabya) تُحاذي أراضي «كفرة» موسكو في الشّمال.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8
وبدهشة لفظتُ: أأأأه؟. قال شارحاً: «هذا منزل قائدنا الأعلى».
كان أمام الباب الكبير جَيش كبير من الخَدَم المناوبين. كانوا قد احتشدوا في صفّين، يعلوهم الجِدّ. كانوا يتكلّمون. اجتمعت قافلتنا في الناحية اليمنى من الباب، نزل ضباطُنا من جيادهم. تكلّموا فيما بينهم فترةً وجيزة. وبدأت حركات الإيماء بالحواجب. أسرع الجنود إلى العربات. وقف جنديان وراء كلّ ضابط، وسُلِّم كلّ فردَين صندوقاً له مقبضان. ثلاثة ضبّاط، ستّة عناصر، وصندوقان. توجّهوا على هذا المنوال نحو الباب، وبعد كلامٍ وجيز، دلفوا إلى الداخل، وغابوا عن الأنظار. قال يوسف: «هذه غنائم هدايا لسيّدنا الآغا».
طال بنا الوقوف جانب جدران «باب الآغا». كان الجنود يتململون جَزعين. كانوا يمشون خطوات قصيرة، يستديرون فجأةً، ويمشون مرّة ثانية على الممرّ نفسه بنظرات ثابتة.
كلّ شيء ذاقوا حسرته موجود في هذه المدينة. وبخروج الضبّاط إلى الخارج، كان هؤلاء الجنود سينالون مآربهم. قال يوسف، بصوت متكدِّر: ومن هنا سنذهب إلى «ساحة اللحم (Etmeydoni»(4 حيث ثكنة (يني أوضه لر)». وحين صمتُّ برهةً أردف: «ستعطى مكافآت لقادة الألوية. هنا فرقة تتألف من ثلاثة مستويات، وسيقدّم بيان عن عدد العائدين، وعدد الذين سقطوا شهداء، وبعد ذلك يستطيع كلّ واحد أن يذهب حيث يريد».
وأخيراً، خرج الضبّاط الثلاثة والعناصر الستّة إلى الخارج. كانت على وجوههم أمارات الرِّضا والسرور، وقد تلاشت علائم التوتر التي كانت بادية عليهم عند الدّخول. ومنذ أن قال يوسف: «ثلاثة مستويات» وأنا، لا أني، أبذل جهداً في الفصل بين هذه المستويات الثلاثة. كنت قد بدأت أعرف أكثر. نظرتُ أولاً إلى سواعدهم. رأيْت على ساعد أحد العناصر رمز أسد وعلى ساعد الآخر رمز منارة. وأما الإشارة التي كانت على ذراع يوسف فهي مثل التي تحملها جماعتنا. «جماعُتنا». شيء غريب، قلت في نفسي: «جماعتُنا شيء غريب». أليس هؤلاء الرّجال أعدائي؟! أليسوا هم الّذين أسروني، وساقوني إلى هنا؟
لكن الحقَّ يقال إنّ «جماعتنا» كانوا يعاملونني معاملة مميزة عن الآخرين. لا أستطيع أن أزعم سوء معاملة الآخرين. كانت الجماعات الأخرى تقف على مسافة واحدة محايدة. أتقرّى في نظرات مجموعتي ملامح تدلّ على تعاملهم الإنسانيّ لي. كانوا ينظرون إليّ بشيء من الاهتمام، بعيداً عن كلّ تجاهل أو استخفاف بي، نظرة في بؤبؤ عيني تقبلُ بوجودي، ماذا يمكنني أن أفعل؟ هذا هو سلوك مجموعتنا، المجموعة الثامنة والثلاثون من بين الجموع! هذا ما قاله يوسف.
لمّا اتّخذنا مساراً قصيراً، منحرفين عن طريق واسع ينحدر إلى الأسفل، وصلْنا إلى ساحة توحي بانطباع واسع، تطلّ عليها مبانٍ، معظمها خشبيّ، محميّة بأبواب متينة وجدران من الدّاخل. عند النزول إلى هذه الساحة، تخال كلّ الأتراك جنوداً إنكشارية، إذا لم تكن قد رأيت أتراكاً آخرين من قبل. كان المكان يكتظّ بالجنود. اجتزنا صفّاً من محلات القصابة (بيع اللحم) المتراصّة، وتقدّمنا تجاه الباب الكبير. أظهر عناصر المناوبة المتمركزون هنا معاملة أحسن لقافلتنا، من هؤلاء الذين كانوا عند «باب الآغا». أدخلوا القافلة كلّها بما فيها نحن الأسرى عبر البوابة إلى الداخل في جوّ من العناق والقبلات، وعبارات الدعابة التي لم أعتدْ عليها.
كان يُخيّلُ إليّ أنّني من قعر جهنّم، وأنّ هؤلاء زبانية النّار، كان ينتصب حائط أقلّ ارتفاعاً قبالتنا تماماً، ويتفرّع عن الحائط أيضاً ممرّات وأبواب. ويلوح من وراء الجدار جامعٌ ومئات المباني الكبيرة والصّغيرة. وفي كلّ زاوية يجلس الجنود مجموعات مجموعات. كانوا يتبادلون أحاديث الصُّحبة الحميمة، يأكلون، يشربون، يدخنّون اللفّائف، يتكلّمون باستمرار. وكان بعض الأفراد يدخل المنازل دون انقطاع، وبعضهم يخرج من هناك. كانوا يحملون رموزاً تشبه تلك الرّّموز المرسومة على ساعد يوسف وسواعد الآخرين. كانت فئة كبيرة منهم عزلاء من السّلاح، يدس أفرادها على أحزمتهم خناجر. أمّا المسلّحون فكانوا خلاف ذلك، مدجّجين بالعتاد والسلاح من رؤوسهم إلى أقدامهم، وكأنهم كانوا يتقلّدون أسلحة تملأ عربة كاملة.
منذ وجبة الصّباح من الحساء، تناولنا هنا طعاماً مطبوخاً للمرّة الأولى. أحضروا ثلاث صينيّات كبيرة، وصينية أصغر حجماً لنا نحن الأسرى. طعام مصنوع من رزّ ولحم. ستبدأ رحلة عشقي لـ (البلاو: طعام الرزّ مع قطع اللحم) هكذا من هنا. في هذه الأثناء قام يوسف بفعلِ ما يوحي بأنّه شخصٌ مرموق. وأخرج ملعقة من ملعقتَين كان قد ثبتهما في الجزء الأمامي من القبعة التي على رأسه، فقدم واحدةً لي. وقال: «كل بهذه» فهمْت من ذلك أنّه منحني شرفاً بهذه الحركة. وبجانب (البلاو) أحضروا شراباً أحمر اللون في أوانٍ فخّارية، كانوا يسمّونه (شيرا). كرعت عدّة أقداح لسلاسته. وطعمه السّائغ. ياللّسعادة! بدأ رأسي يدور بعد فترة قصيرة. أدركت أنّه شاربٌ مُسْكرٌ يُحدِثُ نشوة الثمالة سريعاً، لذا توقّفْت عن الشّرب، فالسكر بين هؤلاء الأشخاص قد ينذرُ بخَطَر مُحدق. تذكّرت واحدة من النّصائح التي كان يقولها أبي على الدّوام: «بترو.. ولدي! إذا كنت في معشر لا تأمن جانبهم أو لم تكسب ثقتهم، فلا تُبد لهم ابتهاجك ولا حزنك، فقد يؤذونك جرّاء ذلك» مضت ساعتان بعد الظّهيرة، ومازلنا ننتظر الضبّاط. حين ظهر الضّباط الثّلاثة، عمت حركة نشاط ملموسة في القافلة: يستطيع الجميع الآن العودة إلى حياتهم الطّبيعية، بميسور كلّ واحد أن يرمي بنفسه في الرّكن الّذي يحبّ في هذه المدينة الكبْرى. وأنا مَنْ سأقابل؟ أيّ شيء سأواجه؟ هذا الّذي سمّاه يوسف «بيتي» كيف يكون؟ كيف سيعاملونني هناك؟ وهل سيأتي يوسف إلى هناك؟ فإذا لم يأت، فكيف سأفهم كلام عارف آغا؟ عندما كنْت أفكّر بهذا الأمر، كان الجنود الإنكشارية قد بدأوا يتعانقون، كانوا يودّعون بعضهم. بعضهم يضمّ إليه أسيراً أو أسيرَين، وبعضهم يسوق أسْراه إلى وسط تلك الضّجّة. راودتني رغبة ألّا أكون بين هؤلاء، وبينما تعتمل الخواطر في نفسي لوّح عارف آغا بالإشارة إلى يوسف، هاهو أحد العناصر من مجموعتنا الذي عرفتُ أنّ اسمه (محمّد) في الطريق، وفي الجانب الآخر يوسف، أمسكا معاً صندوقاً كبيراً من طرفيْه. لوّح يوسف بعينَيه إليّ مشيراً إلى السّرج المؤلّف من جعبتين، والّذي يُثبَتُ على ظهر الحمير. وأنا بدوري حملت السّرج، أحد طرفيه إلى أمامي، والطّرف الآخر إلى ورائي. لقد كنّا متوجهين إلى «بيتنا» إذاً.

الصفحات