رواية "عشاق السماء والدماء"، قليلٌ من الأشخاص مَنْ سمع باسمها في رحاب استانبول هذه، وليس هناك أحد سوى فرقة الإنكشارية مَنْ ذهب إلى هناك ورآها بأم العين، مدينة تسمى (بسارابيا Besarabya) تُحاذي أراضي «كفرة» موسكو في الشّمال.
أنت هنا
قراءة كتاب عشـاق السماء والدماء
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

عشـاق السماء والدماء
الصفحة رقم: 6
توطّدت علاقة الودّ بيني وبين يوسف، فكان يتردد عليّ كثيراً أثناء المسير لذريعة أو لأخرى. يوجّه لي أسئلة، تمدّني بمعلومات مهمّة جداً. ولاحظت في هذه المرحلة أنّني بدأت أتعلم التركية بسرعة مُذهلة.
كانت القافلة تتحرك بسرعة لا تصدّق. وكنا نحن الأسرى نجد صعوبة في تتبّع المسير. كنا نبيت الليالي في (خانات)، ونكمِلُ المسير نهاراً دون انقطاع. وفي هذه الليلة التي نزلنا فيها للمبيت قدّرت فضل الفائدة التي لمستُها من هؤلاء الأفراد الثّلاثة ذوي الأزياء الغريبة، الذين عرفت منذ اليوم الأوّل أنّهم ليسوا جنوداً إنكشاريّة. كان في أيدي هؤلاء الرجال فؤوس (بلطات)، يسمّونها (تبر teber).
كانوا يعتمرون على رؤوسهم قبّعات ذات شرائط مثلّجة مزركشة. وقد علّق كلّ واحد منهم على حدة اثنتي عشرة قطعة من الحجر مدبّبة الرؤوس على حزامه الذي يطوّق جذعيه. كان الجنود يظهرون الاحترام لهؤلاء، فيتجمعون حواليهم، ويتعاقرون كؤوس الخمر معاً. ويرتّلون ترانيم وأناشيد إلهية تشبه أدعيتنا. وسوف يتضّح أنهم كانوا رجال دين من نمط خاصّ.
لم أتمالك نفسي، سألت يوسف: «مَنْ هؤلاء يا يوسف؟!» فابتسم في وجهي وقال: «هؤلاء دراويش البكداشية يا صفيرون»(3) واستأنف: «إنّهم يشبهون قسّيسيكم، لكن كراماتهم وحكمهم كثيرة. ولا نذهب إلى الحرب دون هؤلاء».
كنْت أمحّص النظر حولي دائماً مدى الطّريق. لقد خرجت من قريتي أوّل مرّة كجنديّ. ولم أرَ في حياتي مكاناً آخر، وخاصة المدن. كنت أفكّر باستانبول، أحاول مقارنة كبرها بـ (بلْتسي). حين قدمنا إلى (بُكرش Būkreş) بدت (بلستي) صغيرة في عيني. إنها استانبول... مدينة جلالة الملك قسطنطين... هل هي أكبر من بُكرش عجباً؟.
لمّا وصلْنا إلى (أدرنة) خرجَتْ مجموعةٌ كبيرة من الجنود لاستقبال قافلتنا. كان الجنود يتعانقون، يتضاحكون، ويتبادلون عبارات المزاح والنكتة بأصوات عالية، ويتسلّوْن مثل الأطفال. ما بقي في ذاكرتي من (أدرنه) هو هذا المشهد وجامع (سليمية) الكبير الفخم.
أتخيّل من يتربّع فوق قبّة هذا الجامع ويشاهدنا. لم أرَ في حياتي كنيسة كبيرة مثل هذا الجامع. لماذا إذن كنّا نقول عن هؤلاء الأتراك: «كفّار»؟ أيْ ليس لهم دين، كيف يكون الإنسان كافراً وثنياً، وينقل في الوقت ذاته هذا القّدر من الأعداد الكبيرة من الحجارة، ليشيد بها صَرحاً فخماً مهيباً بهذا الطراز الجميل من أجل العبادة؟! إذاً عندهم دين، ولكنْ نحن لم نكن نعترف بدينهم. هذا هو الجواب، والتفسير... كنت أفكّر بهذا. وحينما وصلنا إلى البلدة التي يسميّها الأتراك (سيلفري Silivre) ذات القلعة الوحيدة المعرفة بقوّة إحكامها، علْمنا أنّنا بعد يوم واحد سنكون في استانبول. كان ثمة دهشة مثيرة تسود أوساط القافلة، فمعظم عائلاتهم، وأحبّائهم، وأصدقائهم كانوا في استانبول تقريباً، ولا بدّ أنّ كأس معين الشوق قد طفح لديهم. وأمّا أنا فماذا أقول عن أهلي؟ أين هم الآن؟ وهل سألتقي بهم ثانية؟