أنت هنا

قراءة كتاب عشـاق السماء والدماء

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
عشـاق السماء والدماء

عشـاق السماء والدماء

رواية "عشاق السماء والدماء"، قليلٌ من الأشخاص مَنْ سمع باسمها في رحاب استانبول هذه، وليس هناك أحد سوى فرقة الإنكشارية مَنْ ذهب إلى هناك ورآها بأم العين، مدينة تسمى (بسارابيا Besarabya) تُحاذي أراضي «كفرة» موسكو في الشّمال.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 9
عندما خرجنا من «سوق اللحم» مبتعدين قليلاً، بدأنا نشاهد طريقاً يصعد إلى الأعلى، ولكي يهيئ لنا عارف آغا فرصةً للرّاحة جعل يقود جواده ببطء. وبعد الطريق الصّاعد، خرجنا إلى ممرّ مفروش بحجارة ذات أشكال عشوائيّة. اصطفّت مختلف الحوانيت على جانبي الشّارع. كان باعة المحلاّت يخرجون أمام دكاكينهم، ويوجّهون التحية بالاسم قائلين «على الرّحب والسّعة عارف آغا»: كان عارف آغا يتلقى هذه التحيّات بثني رأسه صامتاً، وبوضع يده اليمنى على طرف صدره الأيسر. لقد سرْنا مسافة جيّدة، تقدّمنا كفاية إلى أن عرفت مدى تقدُّمنا، ونحن على الطريق الذي يحاذي الجانب المطلّ بجلاء على البحر. وفي الأدنى قليلاً كان طريقٌ آخر يوازي هذا الطّريق، وفي الطرف الأسفل من الطريق المذكور، رأيت بغتةً أبراج كنيستَين متقاربتَين متداخلتَين، فما كان منّي إلاّ أن نطقْت: «ما هذا يا سيدّي اليسوع!»، وبصوت مرتفع. تمالكتُ نفسي على الفور. (الخوارنة) قبل قليل، والآن الكنائس! كيف سأصدق مثل هذا؟! هذا شيء غريب مثل رؤية جامع في «بلتسي». هاهما تنتصبان في شموخ بألوانها القرميديّة. تمتمْت «عجباً لنفسي... عجباً لنفسي!!».
ما إنْ تجاوزنا جامعاً محاطاً بكثير من المباني، حتّى أحاط بنا أطفال لم نعرف من أين جاؤوا. كانوا يقلدون الباعة قائلين «على الرحب والسعّة عارف آغا»، يلفظون العبارة بنفس وقار الباعة. وعارف آغا أيضاً كان يردّ على تحيّتهم بالأسلوب عينه. لم يزل الأطفال يتعقبّون خطانا. وهذه القافلة الغربية التي نكوّنها كانت تتقدم في سيرها منعطفة في الأزقة الضّيقة. كان الجوّ حارّا جداً، رغم أنّنا لم نتجاوز منتصف أيلول، وأمّا أنا فقد تقطّرتُ عرقاً تحت السّرج الذي أتنكّبه. كان الأولاد يتصفحونني بإمعان ويتحدثون عني، ويتضاحكون، ثم يديمون النظر إليّ. قطعْنا مسافة على هذه الوتيرة، تخطّينا المسجد الصّغير القديم. وما إن اجتزناه حتى قابلنا حشدٌ، يتألف من خمسين أو ستّين شخصاً، يتزاحمون ويمشون نحونا بخطاً ثقيلة متباطئين. لم يكونوا جنوداً، بل تبدو عليهم علامات الباعة. يتوسّطهم ناسك بكداشي متصوّف يلبس مثل أفراد قافلتنا. عندما أصبحت المسافة بيننا عشرة أمتار، توقّف عارف آغا، وتوقّف الحشْد. تقدّم الدّرويش، وأمسك بمهماز جواد عارف آغا. وفي ذات الوقت نزل عارف آغا من على جواده بحركة رزينة. وقبّل باطن يد الدرويش، كذلك فعل الدرويش إذ قبّل راحة يد عارف آغا، ثم بدأا يتعانقان. بقيت هكذا وسط الجموع مذهولاً، أتضرّع إلى الله ألاّ يدع أيّا من عباده وحيداً. ماذا يحدث لو عانقني أحدهم أيضاً؟!.
دام العناق فترة، ثم انتهى. حينذاك انتبهت إلى أنّنا وصلنّا إلى أمام منزل خشبيّ جديد ذي طابقين في حديقة واسعة محاطة بحائط منخفض. كانت امرأة مسنّة تضع على رأسها غطاء أبيض تقف أمام باب الحديقة. أوّل مرّة أرى فيها امرأة تركيّة، وإذا لمحت وجهها. أبصرتُ امرأة أخرى تنظر أمام الباب، وفي حضنها طفل رضيع لُفّ بعناية فائقة. تقدم عارف آغا إلى المرأة المسنّة؛ قبّل يدها، ووضعها على جبينه. احتضنَتْه المرأة المسنّة باكية. كانت تعانقه بقوة، لا تريد ترْكه. افترقا عن بعضهما في النّهاية، وسارا تجاه الباب. ولمّا سار يوسف ومحمّد، تبعتُهُما أيضاً، فدخلت الحديقة. والمرأة التي في الحديقة قبّلت يد عارف آغا، ورفعتها إلى جبينها. دخل الثلاثة معاً إلى الدّاخل. أمّا أنا فكنت أراقب يوسف ومحمد متعجباً. ولما دخلا، مشيْت على أثرهما، والخوف يهصر قلبي. نعم. دلفنا إلى الدّاخل. لا أصدّقُ يا إلهي. يا إلهي ماذا فعلتُ أنا لك؟
وضع الرجلان الصندوق أرضاً في الزّاوية الدّاخليّة، وأنا وضعْت السّرج. ثم وضعا يديهما على صدرَيْهما، وظلاّ هكذا واقفين. وقفت مثلهما. وكانت تتناهى إلينا من الداخل أصوات أطفال فرحين. أصوات البكاء تختلط بالضّحكات. كنّا متسمّرّين في وقوفنا، لا ندري إلى متى؟ ولأنّني أتصرّف مثل يوسف ومحمّد، فلمْ أرفعْ رأسي، كنت أراقب المكان بطرف عيني، كنّا في مكان رَحْب مثل غرفة. كان هناك ثلاثة أبواب مغلقة، وكانَ درجٌ يصعدُ إلى الأعلى، ودرج يهبط إلى الأسفل. استمرّ وقوفنا هكذا بُرهة.
ثم انفتح الباب الذي يقع قرب السلّم الصّاعد إلى الأعلى. خَرجَ عارف آغا. وقد تكلَّم مع يوسف بأمر ما، ودخل إلى الدّاخل ثانية. فتح يوسف الباب على يسارنا فورْاً. أخذ الصّندوق مع محمّد إلى الغرفة. وأنا بدوري أخذت السّرج إلى هناك. جلسا على الفراش الطّويل الممدود على المصطبة المصنوعة من خشب بسماكة كفّ، قُربَ إطار النّافذة. استولى عليّ الخوف، فلم أجلسْ مثلهما. ارتكزْت قليلاً على حافّة الفراش. خفّت الأصوات التي ترد من الدّاخل، وظلّتْ هكذا زمناً. لا بُدَّ أنّ العائلة قد سكّنَتْ قليلاً أوارَ أشواقها. وعندما انفتح الباب ثانية، برزَ عارف آغا متوجهاً إلى غرفتنا، تتلألأ على ثغره ابتسامة مشرقة، وفي حضنه رضيع. وقفْنا ثلاثتنا. ثنينا أعناقنا خاشعين.
لكأن عارف آغا لم يكن مكترثاً أبدأ بتلك الهيئة، إذ كان سعيداً حقّاً. كان سعيداً إلى درجة كبيرة، حتّى إنّه قد أرانا ـ حتى أنا ـ مولوده الذّكر الذّي رُزق به بعد ثلاث بنات. كان لا يزال سلاحه، وقفطانه على جسده، كان منظره مُضحِكاً. رجل ذو صولة مثل أسدٍ هصور، في حضنه رضيع صغير ملفوف بأطباق من القماش. كان في ذروة سعادته، إلى حدّ أنّه لا يبالي بكلّ ذلك، ولا يحفل بتزعزع هيبته ورزانته التي لم يضيّعْها في أيّ لحظة قطّ. إنّه لا يفتأ يعرض ابنه، جوهرة حياته، عليّ، على يوسف ومحمد، وهو يقول«ولدي.ابني».
ثمّ توقَّفَ، استعاد سمْته الجادّ مرّة أخرى، قال: «أهيبُ بابني أن يكون مخلصاً للديّن والدّولة، ثابت القدم في كلّ حال، أتوسّم فيه بأنْ يبيّض وَجْه أسلافه اعتزازاً، وأن يكون جندياً إنكشارياً عظيماً، سيعيش كما يليق بالجنديّ الإنكشاريّ، لذلك أسميّته (ثابت). أسأل الله ألاّ يخيّب أملي به».

الصفحات