أنت هنا

قراءة كتاب عشـاق السماء والدماء

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
عشـاق السماء والدماء

عشـاق السماء والدماء

رواية "عشاق السماء والدماء"، قليلٌ من الأشخاص مَنْ سمع باسمها في رحاب استانبول هذه، وليس هناك أحد سوى فرقة الإنكشارية مَنْ ذهب إلى هناك ورآها بأم العين، مدينة تسمى (بسارابيا Besarabya) تُحاذي أراضي «كفرة» موسكو في الشّمال.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 10
بيـتـي
 
عامان مَضَيا بسرعة البرق. كنتُ أفكّر في قرارة نفسي الآن: إنّ التجدّد والشّباب نعمة عظمى! ما من صعبٍ أو سهل أمام الشّباب. كم من صعْب يهون، وكم من هيّن قد يُستَصعَبُ!
قدَّر الإله أن يكون الأسرْ قدري، لكنّه وهبَ دواءه النّاجع في عزم الشباب. كنْت قويّاً، أتعلّم بسرعة. أبدو لأسيادي محبوباً، وأظهر في أعينهم جميلاً وسيماً، بشعري الأشقر (الأصفر) وعينيّ الزّرقاوَينْ.
الحديقة كلّها تحت تصرّفي. كنْت أقطن في طابق القبو (البدروم) في حجرة صغيرة ينفتح بابها على الحديقة. أخرج من الصّباح الباكر عادةً إلى الحديقة، أسحب الماء من البئر، وأصبّه في الجرار الثلاث الكبيرة المصفوفة عند مدخل الباب، وفي الشتاء أقطّع الحطب، وأشعل المدفأة في الطابق السّفلي.
كان عملي تقليم الأغصان، وجمع ثمار التّوت والتّين في وقته. لا تنتهي أعمالي بهذا. بل كان من وظائفي تسليةُ (ثابت) والبنات، وصنْع أرجوحة ليتأرجحوا بها، كما أن السيدة الكبيرة ـ واسمها زهرة ـ تجعلني في أيام الجُمَع أعمل حمالاً لسلّتها التي تملؤها بالسّلع من التسوّق. أصبح تعقب البائع المتجول، وأخذ الآنية النحاسية إلى الصفّاح (المبيض)، وإصلاح الأشياء الخشبية في المنزل، من أعمالي الفرعية، وقد صنعت كوخاً صغيراً في ركن من الحديقة، وجهّزت عدّة النّجارة لذلك. وبرزت موهبتي جليّة بهذا العمل في فترة وجيزة. كان سكّان المنزل أكثر ما يعجبهم الخزانة، والطاولات الصّغيرة على طراز (بلتسي).
وربّما كان أخصّ أعمالي وأهمّ وظائفي هو خدمة ضيوف عارف آغا الذين كانوا يزورونه كثيراً. كان هذا أكثر عمل يثير أعصابي، حين كنت لا أعرف التركيّة في المرحلة الأولى.
كان الزائرون من الشخصيات المهمّة في كلّ وقت، وهذا ما يُستَدَلّ عليه من حركاتهم وأطوارهم، كانت يداي وقدماي تتعثران ببعضهما من الإرباك. كنتْ آنذاك أنسى الكلمات التركية التي كنت قد تعلمتها، ولكن عندما تحسنّت تركيّتي، وبدأت أتعرّف على الغادين والرائحين أكثر، شعرتْ بالرّاحة، وغدوت ذا خبرة في هذا المجال. كان إعدادُ القهوة بالرّغوة وتنظيف وريقات التّبغ، ولفّها، وإشعالها من الأعمال التي أتقنتُها في وقت قصير. وقد أتاح لي تحسنّي الملحوظ في تعلّم التّركيّة أن أعير أذناً إلى أحاديث السّمر والسّهر. كان أكثر ما يهم عارف آغا أن يخوض فيه هو أمور الّدين والدّولة. كنتُ ـ شخصياً ـ أفضّل أحاديثه في موضوعات الدّين. في هذا السيّاق كان كعادته. وحتى في الأفكار العميقة، تراه يسترسل بوجْه سَمْح طّلْق. أمّا إذا تكلّم في شؤون الدّولة، فكلّ شيء يأخذ وجهاً آخر، يعود ذلك الرّجل القديم الذي فَجَرَ رأسي بقبضة سيفه.
وفي هاتين السنتين، تلقَّيت الصّفع منه بسبب أحاديث تمسّ أمور الدّولة. في المرّة الأولى، لأنّني سعلت فقط، وأنا منتصب في الزّاوية أثناء محادثة عامّة، فالتفتَ إليّ غاضباً، قال: «أصفر... تعال إلى هنا». ذهبت نحوه، انحنيت قائلاً: «تفضل سيّدي!» فأنزل عليّ صفعةً مجلجلة، كادت تسقطني أرضاً. كان أكثر ما هزّني وزعزعني في الواقع هو صفعه لي بين خمسة أشخاص. كان آنذاك منفعلاً حتّى إنّي قد توقّعْت منه أكثر من ذلك. ولكنّه بعد الصفّعة عاد إلى رشُده، وقال لي بذات النّبرة: «والآن عد إلى مكانك»، وفي المرة الثّانية كان محقاً على ما يبدو، لكنْ كان يتعذّر عليّ فهمُ ذلك، إذ كان عارف آغا يهمّ بتوديع ضيوفه، وأنا بدوري أحضرْت أحذية الضّيوف، وصففتُها أمام الباب. غير أنّي قد أدرْت رؤوس الأحذية تجاه الباب، أيْ تجاه خارج الباب. وبصفعة مباغتة خرجتْ عيناي من محّجريهما. بقيت مذهولاً شاخص الطّرف بُرهة طويلة، لم أتجرأ في السؤال عن جُرْمي. قال: «أدرْ رؤوس الأخفاف» أدرْتُها جنباً.
رجرج صوته: «ليس هكذا يا سميك المخ، عريض القفا، اجعلْ رؤوسها تجاهي». كيف لي أن أعرف أنّ توجيه رؤوس الأحذية نحو الخارج يعطي معنى رفض الضّيوف؟.
كان أكثر شخص أثار اهتمامي، وبتّ أنتظر قدومه مشوقاً، وبدأت أحبّه كضيف، ذلك الذي كان يزوره بلطافة وخفة ـ إنه: «أحمد بابا» ـ وذلك لسببَيْن: الأوّل: أنّه حين كان يزور عارف آغا، يغدو مسروراً بشوش الوجه. والسّبب الثاني أنّ أحمد بابا عندما يأتي إلى هذا البيت بصحبة ثلّة من الدّراويش، فإنّه كان من الضيوف القليلين الذين يتواضعون في الحديث مع عبد مثلي. كان هؤلاء يسألون عن خاطري، ويتلهفون لمعرفة حياتي السّابقة. كنتُ أنتظر قدوم هؤلاء بفارغ الصّبر، وكنت أكثر ما أُصغي أذناً لأحاديثهم. كان أحد دوافع هذا الحبّ أن هذّه الجلسات كانت متناغمة، وغالباً ما تنتهي بعزف الموسيقا. وخاصةً إذا ما بدأ الدرويش محمد بالعزف على الطنبور، وشرع في التّراتيل الإلهية، فإنّه يملاً قلبي بالوجَد والحبور، فأبدأ بالبكاء. وأعاين بكاء عارف آغا أيضاً. ولكنْ عجباً، لِمَ؟ لماذا كان هذا الرجل يبكي؟.

الصفحات