أنت هنا

قراءة كتاب عشـاق السماء والدماء

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
عشـاق السماء والدماء

عشـاق السماء والدماء

رواية "عشاق السماء والدماء"، قليلٌ من الأشخاص مَنْ سمع باسمها في رحاب استانبول هذه، وليس هناك أحد سوى فرقة الإنكشارية مَنْ ذهب إلى هناك ورآها بأم العين، مدينة تسمى (بسارابيا Besarabya) تُحاذي أراضي «كفرة» موسكو في الشّمال.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 7
إستانبول «دهشتي»
 
استغرقت رحلتنا شهراً تقريباً، وبفضل التّوقّف ثم الانطلاق لم نكن مُتْعبين. لا يكاد التّعب يدبّ إلينا، حتّى نصادف في طريقنا خاناً أو بلدةً أو مدينة. الآن أدركْت كيف كانت الجيوشْ العثمانية تنطلق من استانبول، وتصل إلى هناك. بينما كنْتُ أتخيّل من قبل، انَّ هذه التحركات كانت تنطلق من عالم غريب شبه أسطوري، يمثل جيوش أمير الظلام التي تظهر بغتةً في الميدان.
وكأن هؤلاء كانوا يتربصون في مكان ما بنجاح، ثم يباغتون الملأ بظهورهم. ما كنْت أتخيّل أن لهؤلاء مناطق، وأحياء وعوائل، وبيوتاً، ومحلاّت، وحتّى مدناً. كنْت أتخيّلهم ينتظرون هكذا، وقد تقلدوا أسلحتهم، وامتطوا خيولهم، ينتظرون أمر التحرّك، ولا هدف أو غاية لهم إلا الحرقَ والإبادة. وبغتة يظهر أمير الظلام في الميدان، ويعطيهم الأمر المخيف «هجوم!».
لهذا كان إعجابي كبيراً بأبناء عِرقنا، كيف يحاربون بمهارة جيشاً مثل هذا؟ يحاربون ببسالة، يهزمونهم ويطردونهم من أماكن عدّة، وأوقات كثيرة، مثلما كانت تفعل أمّي تماماً، حين كانت تطرد الكوابيس التي كنْت أراها في نومي في الصّغر.
ما كنْت أستطيع أن أطرد تلك الكوابيس، إلا بأن أنتفض، أو أصدر صوتاً خافتاً. كنْت أتقلّب حينها على جمر من اليأس. أمّي وحدها كانت تطرد الكوابيس، تبعدها، إذ تأتي قربي، وتقبّلني، وتداعبني، وتلهج باسمي «ذهب الكابوس يا بترو، ذهبَ يا عزيزي الغالي!» فكنْت أرتاح، أتخلّص من الكابوس. كنْتُ أميّز الحرب ضدّ الأتراك من الحروب التي كانَ يشنّها أمراؤنا فيما بينهم. في حروبنا نحن كانت الأطرافُ واضحة، وكذلك المدن التي يقصدونها، وأسماؤهم، وأشكال قلاعهم، ألبستهم. أمّا الأتراك فكانوا مختلفين تماماً، القديسون وحدهم هم الذين كانوا قادرين على إدارة الحرب معهم. مَنْ يتغلّب على هؤلاء يكنْ قدّيساً حقّاً. لا يغلب أميرَ الظّلام إلا ملائكةُ النّور. إن إلحاق الهزيمة بالأتراك لدليل قويّ على نورانيّتنا في الوقت نفسه.
غير أننّي الآن أمام أبواب عاصمة الظّلام هذه. إنّ أسوارها اللامتناهية، وأبراجها التي تبدو متدثّرة بلحاف الضّباب، ومآذنها التّي تذكّرنا بالرّماح، تقف أمامنا الآن، يزداد هديرها الصاخب تدريجياً كلّما اقتربنا، وكأنّ المدينة تدرك آخر وجبة أكلتْها، بل وتطحنها طحناً. كان كلّ منظر يتجلى لهذه المدينة، كلّ صوت يصدر منها، كأنّه يصدر من عالمٍ آخر تماماً، إنّه يحاصرني، ويحتل كياني.
كان روّاد القافلة من الفرسان يعرفون الأماكن التي يذهبون إليها بدقَّة، يعرفون كيف يمضون إلى كلّ باب من الأبواب التي كنّا نراها من بعيد. قال يُوسف لي: «إننا نتوجّه إلى باب (أدرنه)، لعلّنا نتسلّى هناك، ثم تذهب إلى بيتك مع عارف آغا». قْلت في استغراب: «إلى بيتي؟» قال يوسف: «نعم» أليس ذلك المكان بيتك بعد الآن؟! سكتُّ. لقد أثار استغرابي قوله «بيتك» وهو يقصد بيت سيّدي. أيمكن أن يكون لي بيت في هذه المدينة؟ كيف يكون بيتُ سيّدي بيتي، وأنا عبد! أكنْت سأقطن مع سيّدي وأسرته في المنزل نفسه؟ هل هذا شيء يمكن أن يقع ويُصدَّق؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف يتكلَّم يوسف إذنْ بهذه العفويّة؟ أهو يمازحني، أم إنّه يسخر من جهلي؟ كلا. لم يفعل مثل ذلك طيلة شهر كامل. فلو أنّه وجد جهلي شيئاً مثيراً للضّحك لذكر لي ذلك، وضحك، ولضحكْت أنا أيضاً. ولكنّه لم يسخر مني ضمناً.
كان باب أدرنه يبدو واسعاً بوضوح بين الأبراج العالية. وكما حدث في كلّ مكان، تعانق الجنود الإنكشارية. سُئِل القادمون من أين جاؤوا، وأما الذين يعرفون بعضهم بعضاً فقد شفوْا غليل شوقهم. كانوا في معظمهم يعرفون بعضهم. ويخيّل لي هذا من الأمور الغريبة. إنّهم كثرٌ، ورغم ذلك كانوا يعرفون بعضهم بعضاً!
بدأنا نستلّ طريقنا في داخل المدينة بعد وقت وجيز من اللهو. أنا الآن وسط الضّجيج، وعلى جانبَي الطريق اصطفّت دكاكين كثيرة. كان الناس في كلّ مكان مشغولين في شؤونهم. كانوا يرفعون رؤوسهم، ويسلّمون على قافلتنا، وعند عبور المارّة على أماكن تجمّع النّاس، كانوا يخرجون من حوانيتهم مسرعين، ينحنون لصِقَ الأرض عادة، ويحيّون الضباط الثلاثة في الطليعة، والضباط بدورهم يردّون التحيّة بوقار. وبغتةً لمحْت بين المحتشدين قسّيسَين يؤديان السّلام راكعين! لعلّ عيني تخطّئانني! كلاّ.. لا تخطئان. كانا لا بسين مثل كهّاننا. يا للعجب. قسّيسان في عاصمة الظّلام! وباقترابي رأيت المزيد. لا.. ليس في هذه المدينة قسّيسان فقط. كيف يكون هذا؟ فضولي يزداد كلّ دقيقة. دماغي يصدع من زخم التّساؤلات.
بينما كذلك، إذْ وصلنا إلى مكان فيه بناءٌ مكوّن من خشب منتظم وحجر، محاط بحيطان عالية، يظهرُ جزءٌ منه من وراء الجدران، وكان قربَه جامعٌ شبيه بالجامع الذي رأيته في «أدرنه، وكبيرٌ بالقدر نفسه تقريباً. يوسف، آه يوسف! الحمد لله أنّه ما زال قُربي. سألت: «ما هذا المكان؟»، قال «باب الآغا»، نظرتْ بعينَيّن فارغتين دهشتين، تظهران أنّي لم أع شيئاً.

الصفحات