رواية "عشاق السماء والدماء"، قليلٌ من الأشخاص مَنْ سمع باسمها في رحاب استانبول هذه، وليس هناك أحد سوى فرقة الإنكشارية مَنْ ذهب إلى هناك ورآها بأم العين، مدينة تسمى (بسارابيا Besarabya) تُحاذي أراضي «كفرة» موسكو في الشّمال.
أنت هنا
قراءة كتاب عشـاق السماء والدماء
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

عشـاق السماء والدماء
الصفحة رقم: 3
حكاية (بترو بن ميشيل)
قليلٌ من الأشخاص مَنْ سمع باسمها في رحاب استانبول هذه، وليس هناك أحد سوى فرقة الإنكشارية مَنْ ذهب إلى هناك ورآها بأم العين، مدينة تسمى (بسارابيا Besarabya) تُحاذي أراضي «كفرة» موسكو في الشّمال.
في هذه المملكة نهر مشهور باسم (دينيَستر Dinyester)، نهر كبيرٌ جدّاً، ونهر آخر يجاوره باسم (روت Reut) وعلى ضفاف هذا النهر تقع مدينة تدعى (بلْتسي Beltsi). وقرب مدينة (بلْتسي) هذه، قرية صغيرة باسم (ويشلوف...Vislov)، تُعَدُّ مسقط رأسي (فقير) أيْ صاحب اسمه القديم بترو بن ميشيل.
أنا (فقير) ـ بترو سابقاً ـ بقيْتُ أعمل حتى السنة التاسعة عشرة من عمري في صيد السمك وتربية الخنازير في القرية، لم أكن حينذاك قد سمعْت اسمَ أيّ شيء أو حدث أعطى لحياتي معنى حقيقيّاً، إلى أن أصبحت جنديّ مشاة ضدّ التّرك بأمر من أمير المقاطعة، وفي شهر أيّار ذاته.
وفي (بلْتسي) درّبونا ثلاثة أيام، وكان معي أربعة شبّان من قريتنا أيضاً. هناك رأيت البندقيّة أوّل مرّة في سنوات حياتي الأولى ـ علّمونا في ثلاثة أيّام كيف نستخدم البندقيّة، ونسدّد بها، وكيف نلقّمها، وقالوا لنا: « ستلزمكم هذه الأسلحة كثيراً في الحرب ضدّ "الأتراك الملحدين". وبذلك أصبحت جنديَّ شرف في جيش «كاترينا» زوجة إمبراطور روسيا.
كان قد مضى سبعة أيام على خروجنا من (ويشلوف). أمرنا ضابط ـ وكنا اثني عشر جندياً ـ أن نرصد حركة الخروج والدخول للأتراك إلى قلعة «هوتين Hotin»، فتربّصنا في مرعى صغير يُتاخم تلّة صغيرة تطلّ على الجانب الغربيّ من القلعة، وبدأنا في الرّصد. كنا متعبين وجائعين، فما كان منّا إلاّ أن غفونا، ولا أدري متى استيقظت على صوت يشبه هزيم الرّعد، لم أدرك حينذاك فحواه، وتماسّ قطعة حديد باردة لعنقي تماماً. وإذا بتركيّ في سنّ الخامسة والثلاثين، يبدو مهيباً مخيفاً على ضوء القمر من ورائه، بقبّعته من اللبّاد الأبيض، وشاربه الكثّ الضّخم، وكأنه مقدود من الحديد، ينتصب فوق رأسي: «لا تُبْدِ أيّ حركة يابنَ الكافر!». رقْبتي لم تخطئ حدْسي. كان السّيف الذي بيد هذا التركيّ يضغط على عنقي.
كنت شاباً مسيحياً شجاعاً. وأريد أن أعترف في الأصل أنّ منشأ هذه الشجاعة غير معروف، شجاعة زائدة مصدرها قلّة الدّراية. لو كان الأمر الآن لمتُّ فَزَعاً. ولكنْ في ذلك الوقت كنْت متشوّقاً كثيراً للقاء القديسين في الجنّة. استدرتُ بغتةً لأتخلص من السّيف وأمدّ يدي بغية الوصول إلى البندقية، وما إن تلفتُّ حتى شعرت بكدمة ثقيلة على يافوح رأسي. أحسستُ وكأنّ بؤبؤيّ قد خرجا من محجريهما، وكادت روحي تخرج عن جسدي.
وعندما فتحت عينيَّ وجدت نفسي في حظيرة. كانت يداي موثقتين إلى بعضهما بالأغلال. سلسلتان حديديّتان كانتا تتفرعان عن السلاسل التي تُغِلُّ كلتا يديَّ، كل واحدة منهما ترتبط بالقيد الكبير الذي يلفّ كعب كلّ قدم. لقد وقعت أسيراً. وفي شهر أيّار أيضاً من شهور الله العلي القدير، وفي عمري الذي لم يُناهز التّاسعة عشرة بعدُ، من سنة 1769 من ميلاد السيّد المسح، كنّا محبوسين مثل الخنازير في إحدى حظائر قلعة (هوتين). كنا زهاء خمسينَ مسيحياً شاباً مثلي.
كان ألمٌ لا يطاق، يطنّ في مؤخرة رأسي، وجسدي ينضح كلّه برائحة الدّم. ثمّ صادفتُ «نيكولا» الذي خرجت بصحبته معاً من «ويشلوف». وصلنا إلى بعضنا بالزّحف والتلوي. وعلمت منه أنّه لم ينجُ أحدُ سواناً من الإثني عشر نفراً الذين كانوا في التلّة. كان «نيكولا» يقول: «نحن محظوظان» فأجبته: هل نحن محظوظان حقاً؟!.
وعندما حاصرت إمبراطورتنا «كاترينا» الثّانية قلعة «هوتين» كان بصيصٌ من أمل، ما زال، يبرقُ في داخلنا. كان هذا الوضع يثير أعصاب الأتراك. وقبل كلّ وجبة طعام يأتون بها إلى الزنزانة، كانوا يطعموننا (فلقة) دسمة. وفي هذا المكان تعلّمت أول الكلمات التركية في حياتي. «كافر، ديّوث، ارجع خلفاً، خنزير، قميئ».. كلمات مثل هذه كنا نجد سهولة في فهم معانيها ودلالتها من سياق نطقها مصحوبة بتصرفّات ما.
كنّا قد تعودّنا كلّ شيء.. الطّعام الذي بدأ بنقص تدريجياً، وحركات الدّفع والنهوض المتتالية، وكلمات الكفر واللعْن التي زادت ثروةَ كلماتنا.