ليس خلعا للأبواب المفتوحة أن نزعم أنّ الفكر البشري إنما يتطوّر بتلاقح الأفكار وتجاورها واعتراكها واختصامها.
أنت هنا
قراءة كتاب بساتين الكلام - محاورات في الفكر والأدب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أبو يعرب المرزوقي
الدولة الحديثة في أوروبا أخذت الوظائف التي تؤديها المؤسسة الدينية
لم نكد نصدّق أنفسنا عندما علمنا أنّ كلية الآداب بجامعة البحرين ستستضيف بمناسبة تنظيم ندوة علمية حول ابن خلدون في الذكرى المئوية السادسة لوفاته، الفيلسوف والمفكر ''أبو يعرب المزروقيّ''، أستاذ الفلسفة بالجامعة التونسية، فهو فيلسوف ذو خط متميز في الفكر العربي المعاصر، لا يتميز بحصافة رأيه وجرأته فحسب، بل وكذلك، بعمق تفكيره ونظره في ''الكليات''. ورغم ذلك فهو غزير الحركة الفكرية، وواسع الاطلاع والمشاركة في الحياة الثقافية عموما، عبر الكتابة الأكاديمية والمناقشة العلمية والمقالات الفكرية، ولعل الجمهور العريض قد تابعه عبر بعض الإطلالات التلفزيونية ضيفا على بعض البرامج الثقافية، في قناة الجزيرة (مسارات - الكتاب خير جليس) ولكن الجمهور المثقف يعرف كتب الرجل وإسهاماته الرائعة سواء في الفلسفة الإسلامية أو في مقارعة الفلسفات الغربية (المدرسة الألمانية خصوصا) ترجمة ونقدا ومحاورة. ومن مؤلفاته '' الإبستيمولوجيا البديل'' و''منزلة الكليّ في الفلسفة الإسلامية'' و''آفاق النهضة العربية''... وغيرها فضلا عن مقالاته الكثيرة، في المجلات والصحف التونسية والعربية والأجنبية، وقد أثار بعضها جدالا واسعا في صفوف المثقفين، وخاصة بنقده العميق والجذري للمثقفين العرب.
كما عُرف عن أبي يعرب المرزوقي أنه - من بين آخرين من مفكّري المغرب كمحمد عابد الجابري وعبد الله العروي- أعاد قراءة المنجز الخلدوني بشكل راهن لا يقف عند التوصيف العلميّ، بل يتجاوزه إلى بيان ''روح المعاصرة'' في فكر الرجل، منافحا ضدّ من حاول تحجيم القيمة المعرفية لصاحب ''المقدمة''، وقد استغللنا فرصة وجود الدكتور أبي يعرب المرزوقي في البحرين لإجراء حوار معه:
بداية، مرحبا بكم في البحرين، ونود أن نعرّف جمهور القراء بطبيعة مشروع التفكير الفلسفيّ الذي تمارسونه، هل هو تراثيّ خالص؟ هل أنتم من أتباع المقاربات التوفيقية؟ ولماذا العودة إلى التراث بهذه الكثافة (ابن خلدون / ابن رشد / ...) هل هو استنجاد بالأسلاف وتصعيد للشعور بـ ''اليتم الوجودي'' والعجز عن مقارعة ''صقور'' الهيمنة العولمية؟
شكرا جزيلا. أسلّم جدليا أن لي مشروعا تعبّر عنه محاولاتي. وهو تسليم جدلي لأحدّد موقفي من الخيار الذي وضعته أمام هذا المشروع المنسوب إلى الخيار بين التراثية الخالصة والمقاربات التوفيقية. ذلك أني أرفضهما كليهما. فالموقف التراثي بالمعنى المقصود في رأي المصنفين للمدارس الفكرية عند نخبنا الحديثة مستحيل في الفكر إذا كان فكرا. والموقف التوفيقي ليس فكرا أصلا لاقتصاره على الجمع بين الجثث. من السخف تصور الفكر قابلا لأن يكون فكرا عند الاعتماد على تصورات من غير عصره. لا جرم فإنه بوسع صورة الفكر ومادته ألا تكونا متعاصرتين إذا كان مضمونه مادة ميتة يعالجها بصورة غير مطابقة لها فتكون الصورة في قطيعة تامة مع المادة لأنها ليست مرحلة من مراحل تصورها كما يفعل المستشرق دارسا للفكر العربي الإسلامي. تلك هي خاصية كل فكر يدرس حضارة ميتة شأن الدراسة الإثنولوجية. تعلم أني لست إثنولوجيّا. فلا أقف موقف الإثنولوجي في علاجي لقضايا حضارتي التي لا أعتبرها ميتة بل هي عندي نبض الكون عندما ننفذ إلى أسرار حيويتها المبدعة وخاصة في اللحظة الراهنة.
وإذن فالموقف التراثي موقف ممتنع عندي: حضارتي حية والسائل فيها هو عين المسؤول حتى وإن كان شكل وعيه لاحقا يعود على مضمون وعي سابق. كما لا يمكن أن تكون محاولاتي مستندة إلى تناول توفيقي وذلك لعتلين، فالموفق طرف ثالث متطفل يأتي من خارج طرفي النزاع، طرفيه اللذين يوفق بينهما. فلا يكون حكما نزيها مهما سعى إلى الإنصاف بل هو كما قال صاحب كتاب المثل العقلية الأفلاطونية واصفا الفارابي بتحقيق صلح من دون تراضي الخصمين. ثم إن الموفق لا يفكر بل يلفق بين معان غائمة. ذلك أن الفهم يحول دون التلفيق لمجرد وعي صاحبه بالفرق الدقيق.
محاولاتي التي أنفي قابليتها لأن توضع تحت اسم مشروع بالمعنى الذي بات معروفا في الأدبيات العربية الحالية تطلب الكلي المتعالي على المقابلات التي تحوج المفكر إلى الموقف التوفيقي. إذا طلبت الكلي استغنيت عن التوفيق بين الأجزاء المتنافية والمضطرة إلى التوفيق بالتلفيق. لكن رفضي الانتساب إلى النزعة التراثية لا يعني أني أقبل بسخافات من يتصور الفكر ممكنا من دون العودة التأويلية لماضي المبدعات الحضارية عودة تنطلق حتما من مغلقات مستقبلها كما يستقريها العقل من مشكلات حاضرها. فوصف قراءة بكونها تراثية له ضمير تحقيري مفهومه عند أصحابه أن العودة إلى الماضي هروب من دفق الحاضر واندفان في نفق الغابر.
وطبعا لا يمكن أن يقول بهذا الضمير التحقيري إلا جاهل بالفكر عامة والفكر الفلسفي خاصة فضلا عن الفكر الديني. فلم أسمع في حياتي عن نهضة فكرية عامة وفلسفية خاصة عند أمة معلومة لم تكن بدايتها عودة تأويلية لبدايات نشأتها الحضارية من أجل فهم غايات مصيرها الحضاري وتحديد الطرفات الناقلة من الأولى إلى الثانية في التعين الرمزي أولا وفي التعين الفعلي ثانيا. وأسخف ما في هذا الضمير أن أصحابه الذين هم في الأغلب أجهل خلق الله بالفكرين العربي الإسلامي والغربي القديم والحديث يسلمون بأن النهضة الغربية كانت بفضل العودة التأويلية في العصر الحديث لمؤسسات الفكر اليوناني والروماني وإبداعاتهما ونظرياتهما قبل العصور الوسطى لكنهم يتصورون العودة إلى مفكرينا مؤسسات ونظريات وإبداعات نكوصا وظلامية.
ثم هم يتجاهلون أو يجهلون لست أدري أن للفكر زمانية تخصه تختلف تماما عن إيقاع الزمان الفلكي: فيمكن أن يكون أفلاطون أكثر حداثة من هيجل كما يمكن أن يكون ابن خلدون أكثر حداثة من ماركس. ذلك أن فكر أفلاطون وابن خلدون الاجتماعي والسياسي يعدان في لحظتنا أقرب إلى متطلبات عصر الكونية البشرية التي تسعى إلى تحقيق القيم الكونية بعدم الاقتصار على فكرتي روح الشعب العنصرية اثنيا وثقافيا أو نمط الإنتاج العنصري طبقيا واقتصاديا بعد أن تبين في المدارس النقدية أن للبعد القيمي والرمزي المتحررين من العنصريتين في الوجود الإنساني من الأهمية ما سبق إليه أفلاطون وابن خلدون وسها عنه هيجل وماركس في توظيفهما الإيديولوجي للفكر الفلسفي.