كتاب "إبراهيم بن الأشتر "، كان الأشتر في صخب التداعيات الخطرة لخلافة الإمام، قائداً على مقدمة جيشه في البصرة وصفّين، ورجل المهمات الكبرى، ما شكّل إحراجاً لمعاوية، فأخذ يخطّط لاغتياله، حتى إذا تحقق ذلك اختلّت الجبهة العراقية ولم يعد ممكناً إعادة تشكيلها على
أنت هنا
قراءة كتاب إبراهيم بن الأشتر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مدخل
تدين شبه جزيرة العرب لموقعها الجغرافي، مركزاً لنشوء حضارات مبكّرة ، من اليمن جنوباً حيث ساد النمط الاقتصادي الزراعي والتجاري، إلى الحجاز وسطاً حيث قامت مكّة في «وادٍ غير ذي زرع»، حاضرةً تتكّئ على تاريخ استثنائي، مُستفيدةً من تغيّر خطوط التجارة، لتصبح محور الأخيرة وأداة حِراكها بين الشرق الآسيوي والغرب الأوروبي.. ولم يكن ذلك ممكناً دون هجرة النبي إبراهيم إليها، واختيارها لبثّ دعوته (الحنيفية)، المتزامنة مع بناء الكعبة، رمزاً لتحولٍ ريادي في المفاهيم، من الوثنية إلى التوحيد في عالم ذلك الزمن البعيد.
ولكن المفارقة أن العقيدة «الإبراهيمية»، ظلّت في إطارها النخبوي، ولم تأخذ طريقها إلى الوعي الشعبي، فيما الكعبة (البيت الحرام) أجمعت على تقديسها القبائل العربية، حيث تداخل الدين مع التجارة في منظومة بعثت الحيوية في نسيجها الاجتماعي، ما أدّى إلى اتّساع دوائر التحضّر على حساب البداوة المتراجعة، فكان الإسلام نقطة التحوّل المفصلية في هذا الاتجاه، والهجرة إلى يثرب (المدينة) تكرّست هجرة إلى التحضّر المقرون بالجماعة. وكانت الفتوح، اضطراراً، محورها التشكيلات القبلية التي كانت مادة الحروب في الإسلام، من دون أن تكتنه تفاصيله، أو تجيش قِيمُه في نفوسها المتأرجحة، بين ثقافة العصبيات والثقافة الإيمانية، في وقتٍ كانت غالبية هذه القبائل التي استنفرها الخليفة الراشدي الأول للجهاد، خارجة لتوّها من التمرّد على الإسلام، في ما عُرف بحركة الردّة.
ولعلها مفارقة أيضاً أن تعقب ذلك مباشرةً حملات الفتوح، متسائلين في ضوء هذه الإشكالية، إذا كانت هذه الحملات جرت في التوقيت الموائم، أو أنّها احتاجت إلى إعداد نفسي وانصهار أكثر جذرية في العقيدة، وإذا كان في الانتظار فرصٌ مماثلة، لما تمّ في لحظة خاصة من التاريخ، شهدت انتصارات باهرة، وفي أعقابها سقوط امبراطورية (الفارسية)، وانكفاء أخرى مجرَّدة من معظم أراضيها (البيزنطية)؟ تلك أسئلة من الصعب البتّ في أجوبة حاسمة عنها، ولكن اتِّساع مدى الفتوحات أربك الدولة الصاعدة، وهي لا تملك حينئذٍ من الخبرة والتمرّس لإدارة بلدان تفوقها تنظيماً وتراثاً حضارياً، ما يساعد على تجذير حضورها على المدى البعيد فيها. ويردّ الشيخ العلايلي هذه المسألة، إلى «عدم عناية حكومة الخلفاء ببثّ الدعوة وغرس التربية الدينية التي كانت لازمة لذلك المجتمع»[1].
ولكن من هي القبائل التي أسهمت في الفتوحات الأولى؟ إن دعوة أبي بكر كانت شاملة ولم تستثنِ أحداً من الانضواء في الألوية المعدّة للتحرّك نحو الشام. وقد جاء فيها: «أمر ـ أي الخليفة ـ أهل مكة والطائف واليمن وجميع العرب بنجد والحجاز، يستنفرهم للجهاد ويرغبّهم فيه وفي غنائم الروم، فسارع الناس إليه بين مُحتسب وطامع وأتوا المدينة من كل أوب»[2] ومن الواضح أن هذه الدعوة ركزت على حافزيْن، ربما متناقضين في المبدأ، ولكنهما متكاملان في الواقع، وهما الجهاد والغنائم.. فإذا كانت النُخب التي انطلقت من المدينة مؤمنةً برسالية الإسلام وملتزمة بنهج الرسول الذي كانت آخر غزواته إلى تبوك على تخوم الشام، فإن القبائل تطّلب حشدها تحفيزاً يطابق تقاليدها في الغزو والغنائم، وكل ما يؤجّج غرائزها القتالية، ويثير حماستها لتلبية دعوة الخليفة.
هذا ما حدث فعلاً حينذاك، إذ وفدت تشكيلات القبائل على المدينة «من كل أوب»، منخرطة في الألوية، مطواعة لقادتها على الجبهات، فكانت الانتصارات العظيمة في ظاهرة انقلابية مشهودة لحركة التاريخ. ولكن رواية البلاذري لم تُشر إلى أسماء هذه القبائل التي قاتلت وحداتٍ بقيادة رؤسائها، كذلك الروايات الأخرى جاءت مقتضبة في هذا السياق. وعلى سبيل المثال فإن الطبري في روايته عن مسيرة خالد بن الوليد من البحرين بعد قضائه على ردّة الأخيرة، إلى العراق حيث المثنّى بن حارثة الشيباني يقوم حينذاك بعمليات توسعية محدودة، يكتفي بالقول: إنّه حشد «ثمانية آلاف من ربيعة ومُضر، إلى ألفين كانا معه»[3]، لم يحدّد نسبهما، كما لم يأت على ذكر قبائل أخرى انضمت إليه أو رافقته بعيد ذلك إلى الشام، بناءً على طلب الخليفة.
ومن السائد أن جذعين تفرّعت منهما القبائل العربية ، وهما القحطانية والعدنانية، أو العرب العاربة والعرب المستعربة، ولكن ما يلفت أن النسَّابين تتبعوا بانتظام حلقات الأخيرة وتفرعاتها، يحدوهم إلى ذلك انتماء الرسول إلى قريش المتحدرة من كنانة، المتصلة بدورها بمضر أحد أحفاد عدنان، فيما العاربة ظلّت تُنسب لقحطان مجموعات متفرّقة من دون انتظام في سياقٍ تسلسلي، مندرجةً فقط في ما يُعرف بالقحطانية أو اليمانية. وكانت هذه تفوق عدداً العدنانية التي حملت مع تعاقب الأزمنة تسميات أخرى، مثل النزارية والمضرية والقيسية. كما أنها تفوّقت حضارة، حيث قامت في اليمن كيانات منذ الألف الثاني قبل الميلاد، لا سيما إمارة سبأ في دورها الحيوي على صعيد التطور الاقتصادي والتفاعل مع القوى السياسية المعاصرة لها. وفي وصف موسكاتي ما يؤكد على أصالة تلك الحضارة وسطوعها، إذ يقول: «كان العرب الجنوبيون عظيمي التوثيق في صناعة القطع الفنية الصغيرة، فالكُتّاب اليونان والرومان ترنّموا بأناشيد الثناء على الكؤوس والأوعية التي صنعها السبئيون من الذهب والفضة.. وقد صنعت قطع كثيرة من الحلي بالغة القيمة من الذهب الذي كان وافراً في جنوب شبه الجزيرة العربية ، وسُكّت نقودٌ كثيرة اقتداءً بالعالم اليوناني الذي نجد أثره في تلك النقود نفسها.. إن فنّ جنوب الجزيرة، كسائر مظاهر الحضارة التي ينتمي إليها، يدلّ على مرحلة من الحضارة تروّع المرء يتقدّمها. قامت مزدهرة راسخة في أحوال مستقرة، وكانت مستقلة عن بقية أنحاء الجزيرة، بل مختلفة عنها في عدّة وجوه»[4].
ولقد امتدّت مسيرة اليمن الحضارية حتى القرن السادس الميلادي، ممثلةً بإمارة حِمْير التي شهدت في أواخر عهدها تنافس الفرس، والأحباش (بدعم بيزنطي) على النفوذ فيها. كما اشتدت صراعاتِ مُبشّري الأديان، ما أنهك نظامها الاقتصادي وزعزع بنيتها السياسية، وأغرى بالتالي الأحباش بغزوها والقضاء عليها. ولم ينفك هؤلاء منذ القرن الرابع الميلادي يتربّصون بها، في ظلّ مشروع يرمي إلى تنصيرها، ذلك الذي عبّر عنه بعد سقوط اليمن، (القرن السادس) بناء القائد أبرهة الكنيسة المعروفة بـ «القليْس» في صنعاء، بهدف صرف القبائل العربية عن الكعبة إليها. وهو ما يفسّر متابعة غزوه شمالاً نحو مكة، متوخّياً استكمال مشروعه بالتقدّم إلى مراكز النفوذ البيزنطي في الشام، ولكنّ مكة ردّت الغزو على أعقابه، في ذلك العام الشهير بـ«عام الفيل»، المتزامن مع ولادة محمد (570م). ولم يسع أبرهة البقاء في اليمن، بعد انتفاضة أهله المتحالفين مع الفرس، لتثبتَ شبه الجزيرة مرة أخرى، أنها عاصية على الأطماع الخارجية في تاريخها القديم.