كتاب "إبراهيم بن الأشتر "، كان الأشتر في صخب التداعيات الخطرة لخلافة الإمام، قائداً على مقدمة جيشه في البصرة وصفّين، ورجل المهمات الكبرى، ما شكّل إحراجاً لمعاوية، فأخذ يخطّط لاغتياله، حتى إذا تحقق ذلك اختلّت الجبهة العراقية ولم يعد ممكناً إعادة تشكيلها على
أنت هنا
قراءة كتاب إبراهيم بن الأشتر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
فاللطف والرحمة وعدم الاغترار بالنفس وممالأة الخاصة، وتجنّب الظلم، هي مفردات طالما طفحت في نصوص الإمام، ومن دونها يتوه الحاكم، خليفةً أو أميراً عن المقصد وتلتبس عليه معالم الطريق، «والله ـ يقول الإمام ـ سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد»[102]. ولا يظنّن أحد ممّن تغويه السلطة وينأى عن الشعب، أنّه في حصن مكين. فهي معادلة ساقطة مهما تتالت الحِقاب والأزمنة، لأن الأمة لا تعدم استيلاد قادة نورانيين، ويبقى «يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم»[103]، كما في قول آخر في «النهج». هكذا رأى الإمام إلى السلطة، قارئاً بتمعن صيغتها في «الكتاب» ومستلهماً صورتها الرسولية سلطةً تقوم على العدل، وحينئذٍ يتوهج العقل بنور إلهي، مُنفتحاً على الحوار، مُوقّراً إنسانية الإنسان: «وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحقّ وأعمّها في العدل وأجمعها لرضا الرعية، فإنّ سخط العامة يُجحف برضا الخاصة، وإن سخط الخاصة يُفتقر مع رضا العامة»[104].
تلك هي المعادلة الثابتة في خطاب الإمام، مؤسسة على ثلاثة أركان: «أوسطها»، بمعنى «القطب «ما بين طرفين»[105] وليس وسطاً بينهما. وفي معجم ياقوت منسوباً إلى الإمام: «خير الناس هذا النمط الأوسط، يلتحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي»[106]، و«أعمّها»، فلا يُستثنى أحد في العدل، و«أجمعها»، بما يؤدي إلى «رضا الرعية»، ويطابق بين الخاصة والعامة في مواجهة تحديات الأمة، وإن بدرت منها (الرعية) شوائب، فالوالي «أحق من سترها»[107]. وليس المقصود هنا إخفاءها أو تجاهلها، ولكن من شأنه ترويضها في الاتجاه الصحيح، كابحاً بحسن سيرته أحقادها وعصبياتها، مدقّقاً في كل ما يُرفع إليه من تقارير، قد تخفي تملّقاً أو تكاذباً من حواشيه. فالإمام في هذا السياق يحذّر ـ وكلامه موجّه دائماً إلى الأشتر ـ قائلاً: «لا تدخلنّ في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل، ويَعدِك[108] الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يُزيِّن لك الشّره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظنّ بالله»[109]. ومن اللافت أن البخل كثيراً ما تردّد في «النهج»، مقترناً بأقبح صفات الرجال، لا سيما ذوي الأمر منهم، ومن ذلك، ولعله الأكثر عمقاً وشمولاً: «البخيل جامع لمساوئ العيوب»[110].
لقد حظي عهد الأشتر باهتمام خاص من الفقهاء والمؤرخين، ممّن خاضوا في موضوعة الفكر السياسي والإداري عند الإمام، ولذلك انتصافاً لهذه الشخصية الفذّة، وبحافز الإضاءة عليها، بما يقارب دورها التاريخي، توخّينا رصد ما أمكن من تفاصيل، ليست تخصّها فقط، ولكنها معنية أيضاً بالأشتر الابن الذي أغامت أخباره، وكان أقلّ حظّاً من أبيه في الدراسات التاريخية. فقد أحاطت بالإمام شخصيات استثنائية، مثل عمّار بن ياسر وقيس بن سعد وحجر بن عدي وسليمان بن صُرد ورفاعة بن شدَاد.. ولكن الأشتر كان الأكثر تميّزاً في حضوره، رجل حرب ومهمّات صعبة، وعقيدة راسخة، إلى حكمة وصدقية قول وفعل. لذلك اصطفاه الإمام ومنحه كل ثقته، وقال فيه كلاماً لم يقل مثله في الآخرين.. والعهد يبقى الأنموذج في هذا المجال، وقد صاغه على نحوٍ من العمق والبلاغة، بمستوى ما يمثّله الأشتر في نفسه، وبقدر ما تحمله المهمة التي انتُدب إليها من خطورة كان الأجدر في التّصدي لها.
ولعل القراءة المتأنيّة في «العهد»، تكشف ما يتعدى الوصايا والكتب التي اعتاد الإمام توجيهها إلى عمّالـه وقادتـه، أو حتى المنافثات الخاصة، كتلك التي أفضى شيئاً منها إلى النّخعي الآخـر الأثير، كُميل بن زياد، عن العلم والعلماء[111].
ولطالما ربط الإمام بين العلم والسلطة، أساساً للعدالة التي ضلّ طريقها الجاهلون، فأخفقوا. أما الذين استبروها بالعلم فساروا في الطريق الصحيح، ومن «علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم»[112] على حدّ تعبيره. ومن هذا المنظور و«العهد» المتفرّد بهذا العنوان، يشكّل نظرية كاملة للسلطة العادلة التي استشرفها الإمام من تجربة مفعمة بالمعاناة ومثقلة بالتحديات، منذ أن تفتّح عقله مبكّراً على الإسلام، وكان الأشتر أول المنضوين في خطّه من عرب الأمصار، فلم يسر في غير طريق الحق والعدالة.
ولقد سبق أن ضاق الخليفة عمر بالمتزلفين من حوله، ومنهم عمّال شذوا عن «الطريق» فاتّبعوا أهواءهم على حساب مصالح الأمة، ولكن كان شديداً عليهم، وبثّ عيونه لرصد سلوكهم، ومحاسبة المستغلين منهم، حتى «ملّته» خصوصاً قريش، فلم يجد سوى علي نصيحاً، فاختاره للقضاء[113]، وأخذ برأيه، من دون الذي استشارهم من كبار الصحابة، عندما قرّر الشخوص إلى العراق لقيادة الحملة إلى بلاد فارس بعد عزله سعد بن أبي وقّاص[114]، ولم يخيّب علي ظنّ الخليفة فيه.
وفي هذا السياق، يؤكد الإمام على دور الأعوان في جهاز الحاكم، باختيار أفضلهم من المنصهرين في العقيدة، وتجنّب المتملقين الذين «يميلون مع كل ريح»[115] فعمل على تجديد إدارته، مؤثراً ألّا يكون بينها من سبق لهم أن خاضوا تجربة السلطة، ففسدوا وأفسدوها، ولم يصمدوا أمام إغوائها. وفي ضوء ذلك يخاطب الأشتر قائلاً: «إنّ شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شرِكهم في الآثام، فلا يكوننّ لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف، ممّن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم[116] وأوزارهم، ممّن لم يعاون ظالماً على ظلمه ولا آثماً على إثمه: أولئك أخفّ عليك مؤونة وأحسن لك معونة وأحنى عليك عِطفاً، وأقلّ لغيرك إلفاً.. ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمُرّ الحقّ لك، وأقلّهم مساعدة فيما يكون منك ممّا كرهِ الله لأوليائه واقعاً [ذلك] من هواك حيث وقع، وألصق بأهل الورع والصدق، ثم رُضْهمْ على أن لا يطروك ولا يَبْجحوك بباطلٍ، فإن كثرة الإطراء تُحدث الزّهو وتُدني من العِزّة»[117].
ولعل «العهد» هنا، مطابقٌ للميثاق في تأسيسه لسلطة قوامها العدل، ولن يكون ذلك إلّا بتعميق الولاء العقدي للمجتمع، بما يؤدي إلى ترسيخ القِيم فيه، وفي مبدئها كسر سطوة الظلم وردّ الاعتبار إلى الرعية التي عانت التهميش واستلاب الدور، ما دفعها سابقاً إلى إطلاق صرخة الاحتجاج ضد استعلاء «الطبقة» العليا، المهيمنة على النفوذ والمال والأرض. وفي ضوء ذلك شدّد الإمام على تصويب العلاقة بين الحاكم والرعيّة، على قاعدة الكفاءة والمحاسبة: «لا يكوننّ المحسن والمسيئ عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة! وألْزِمْ كلّاً منهم ما ألزم نفسه. واعلم أنّه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظنّ راعٍ برعتيه من إحسانه إليهم وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس [له] قِبَلَهم.. وإنّ أحقّ من حَسُن ظنّكَ به لمن حَسُن بلاؤك عنده، وإن أحقّ من ساء ظنُّك به لمن ساء بلاؤك عنده»[118]. ولكن الإمام ينبّه الأشتر، إلى أن في ما سلف من التجارب جدير باقتدائه، وليست ثمة قطيعة، إلّا مع الانحراف: «لا تنقض سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت بها الأُلفة، وصَلَحَت عليها الرّعية، ولا تُحْدثنّ سُنّةً تَضُرُّ بشيء من ماضي تلك السُنن، فيكون الأجر لمن سَنّها، والوزر عليك بما نَقضتَ منها»[119].