كتاب "إبراهيم بن الأشتر "، كان الأشتر في صخب التداعيات الخطرة لخلافة الإمام، قائداً على مقدمة جيشه في البصرة وصفّين، ورجل المهمات الكبرى، ما شكّل إحراجاً لمعاوية، فأخذ يخطّط لاغتياله، حتى إذا تحقق ذلك اختلّت الجبهة العراقية ولم يعد ممكناً إعادة تشكيلها على
أنت هنا
قراءة كتاب إبراهيم بن الأشتر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ولكن معاوية لم ير سوى البعد القبلي السياسي في حركة الأشتر، وسوى التحدّي من قائد يمني لشرعية قريش، فكان أن عوقب مع كميل بن زياد النخعي وآخرين بالنفي إلى دمشق[34]. ولعل ما حدث حينئذٍ يؤشّر إلى طموحات معاوية البعيدة، حيث أنزلَ المنفيين في كنيسة قديمة[35]، وخاطبهم بلهجة لا تخلو من استعلاء، مؤكداً في أطروحته على أن قريشاً هي الشرعية وهم الرعية، وبالتالي لا يحقّ للأخيرة انتهاك المقدّس بالتهجّم على الوالي القرشي. كما جاء في سياق الرواية المنسوبة إلى سيف بن عمر: «إنكم قوم من العرب.. وقد أدركتم بالإسلام شرفاً.. وقد بلغني أنكم نقمتم قريشاً، وأن قريشاً لو لم تكن عدتم أذلّةً كما كنتم. إن أئمتكم لكم اليوم جُنّة[36]، فلا تشّذوا عن جُنتكم». فقال رجل من القوم: «أما ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوّفنا، وأما ما ذكرت من الجُنّة، فإن الجنة إذا اختُرقِت خُلص إلينا». وفي هذه الرواية من الدلالة ما يتعدّى الاستفزاز لجماعة أسهمت بدور بارز في فتح العراق وما هو أبعد منه، إلى صراع سياسي، أو بدايات له، وهو ما تنبّه له معاوية، الذي توجّس خطورة حركة الأشتر، مصارحاً المنفيين ـ وفاقاً للرواية عينها ـ «بأنها إرادة الله أن يستنقذ من أكرم واتّبع دينه من هوان الدنيا وسوء مردّ الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه، ثم ارتضى له أصحاباً، فكان خيارهم قريشاً، ثم بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم، ولا يصلح ذلك إلّا عليهم، فكان الله يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم بالله، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه»؟[37].
ولم يحِر أولئك جواباً، فهم يدركون أن والي الشام، غير والي الكوفة وإن تهيّب الثاني ردعهم، فإن لدى الأول كل الجرأة لتجاوز الردع إلى التهديد بالتصفية، لا سيما الأشتر الذي استثناه من العودة إلى الكوفة، فيما الآخرون ترك لهم حرية الاختيار[38]. ولعل في هذا النصّ المنسوب إلى معاوية، ما يكشف عن نظرية سياسية مبكّرة نحو الملك الذي شدّد عليه في الحوار مع الأشتر وأصحابه. فكان من هذا المنظور أول القائلين بالحق الإلهي لقريش، «المهاجرة» وغير المهاجرة معاً، أو ما عبّر عنه بالإرادة الإلهية. ولم يكن قميص عثمان، المخضّب بدمائه، والذي ارتفع بعد عامين فقط في دمشق، إلّا تمسّكاً بهذا «الحق»، ودفاعاً عن هذه الشرعية التي انتهت إليه (معاوية) وتكرّست في بيته، مُستخدماً كلّ أدواته الإعلامية للترويج لها، ملكاً وراثياً على أنقاض الخلافة، بل «الشورى»[39] المُفرغة أساساً من مضمونها الذي ربما صاغها الفقهاء في زمن غير زمانها.
هذه الحادثة ظلّت راسخة في وعي الأشتر، فلم يبرح ذاكرته، الموقف المهين أمام والي الشام، وكان قد طلب من الخليفة، الالتحاق بعبد الرحمن بن خالد في حمص، بعد منعه من العودة إلى الكوفة[40]. وإذ هو في مقامه ذاك، تناهت إليه أخبار عن مغادرة سعيد بن العاص إلى المدينة، منيباً عنه عمرو بن حريت في إدارة الكوفة. ولم يلبث أحد أصحاب الأشتر، وهو يزيد بن قيس، أن خلع عثمان، وكتب إلى الأشتر أن يوافيه إلى الكوفة. فما مرّ وقتٌ قصير، إلا وقد فاجأ الناس يوم الجمعة على باب المسجد، مستعيداً قولة سعيد بشأن «السواد»[41]. فالتفّوا حوله مندّدين بسياسة الوالي المتغطرس، ثم ارتفعت وتيرة الاحتجاج لتطال الخليفة نفسه. وفي صخب الجدال، خرج ابن قيس والأشتر إلى الجرعة (على مقربة من الكوفة)، ومعهما نحو ألفٍ من الرجال ـ وكان قد بلغهما أن ابن العاص في طريق العودة إلى الأخيرة ـ للحؤول دون وصوله إليها.
ولم يجد عثمان بدّاً من أن يستبدل بسعيد، أبا موسى الأشعري[42] الأكثر حنكة، واليمني الوحيد في إدارة الخليفة... حدث ذلك سنة أربع وثلاثين للهجرة، وحينذاك لم تعد الكوفة وحدها في المواجهة. فقد امتدّت موجة السخط على سياسات الخليفة وولاته إلى الأمصار الأخرى، لا سيما البصرة، فيما الشام كانت قبائلها مطواعة لمعاوية، رجل العهد القوي، وبالتالي لم تكن لديها حوافز للتذمّر، بعدما نعمت برغد عيش وامتيازات خاصة، ما جعلها وثيقة الصلة بالنظام، بل رأس الحربة في الدفاع عن شرعيته.
ولعل هذا التفاوت بين حالة الشام وحالة الأمصار، استفزّ الأخيرة لتحسين ظروفها الاقتصادية، مطالبة، في الكوفة تحديداً، بتوزيع الأرض على فاتحيها. ولكن ذلك لم يلقَ استجابة من قبلُ لدى الخليفة عمر الذي آثر بقاءها في أيدي مالكيها الأصليين، وهم أدرى من العرب ـ في تكوينهم القبلي ـ بأساليب الزراعة القائمة على الرّي، والتي تحتاج إلى نظام تعاوني يصعب تطبيقه لدى الفاتحين، مُعبِّراً عن ذلك بالقول المنسوب إليه: «أخاف إن قسَّمتُه ـ أي السواد ـ أن تفاسدوا بينكم في المياه»[43]. هذا عدا أن الجبهات الحربية كانت لا تزال مفتوحة، والعرب هم مادتها الأساسية، وليس من شأنهم ممارسة شؤون أخرى، تدفعهم إلى الاسترخاء وفقدان الحماسة نحو قضية لها أولويتها حينذاك. ولكن ما تصدّى له عمر وتبنّاه عليّ انطلاقاً من الرؤية الموضوعية عينها فيما بعد، أفلت زمامه، وإن على مستوى النخب، في عهد عثمان، الذي منح امتيازات لبعض الصحابة في هذا المجال، فضلاً عن الولاة المقرّبين، ما أدّى إلى أن يصرّح سعيد بن العاص ما صرّح به عن «السواد»، من دون أن يعي أن الانفجار يكمن فيه. وما بين «الكنيسة» في الشام، و«الجرعة» في العراق، كانت خطوطه تتشابك عبر مثلّث: الكوفة، البصرة، الفسطاط، و«المدينة» لم تعد في منأى عنه.. والأشتر بكلّ حضوره في التفاصيل.
وفي محاولة لتطويق الأزمة المتفاقمة، ينعقد في عاصمة الخلافة، ما يمكن أن نسمّيه، تجوّزاً، «مؤتمر» الولاة (34هـ) الذين توافدوا عليها، وأخذوا يُدلون باقتراحات ليست مجدية، هذا عدا أن الآراء شابها اختلاف، والمصالح تضاربت في ما بينهم[44]. فكان مروان ومعاوية قطبي اللحظة: الأول يحرص على حماية نظام كان ركنه الأساسي، والثاني، على نقيضه، ينفخ في الأزمة، لاستنقاذ ما تبقّى من الخلافة المترّنحة، وهو «ما زال يطمع فيها» حسب رواية سيف بن عمر[45]. وقد تجلّى هذا الموقف لاحقاً، حين أطاحت الثورة (الفتنة) عثمان، في مطالبة معاوية بدمه، وهو لم ينفك من قبل يعده بفرقة من الجيش للدفاع عه، من دون أن تغادر هذه أرض الشام، وهو ما دفع علياً إلى اتهامه بالضلوع في الأزمة وما انتهت إليه، كما جاء في قوله: «أما إكثارك الحجاج على عثمان وقتلته، فاعلم أنك إنما نصرت عثماناً حيث كان النصر لك، وخذلته حيث كان النصر له»[46]. وفي صخب الأزمة (35هـ) وبعد تدفّق المعترضين على سياسة عثمان وولاته، بدت «المدينة» خاوية من السلطة، من دون أن يكون لدى القادمين مشروع يتعدى الإصلاح، ولكن ارتباك الخليفة وسوء تصرّف المحيطين به، فاقم الأمور إلى ما هو أبعد من ذلك.