كتاب "إبراهيم بن الأشتر "، كان الأشتر في صخب التداعيات الخطرة لخلافة الإمام، قائداً على مقدمة جيشه في البصرة وصفّين، ورجل المهمات الكبرى، ما شكّل إحراجاً لمعاوية، فأخذ يخطّط لاغتياله، حتى إذا تحقق ذلك اختلّت الجبهة العراقية ولم يعد ممكناً إعادة تشكيلها على
أنت هنا
قراءة كتاب إبراهيم بن الأشتر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كان الطابع الحضري إذاً الغالب في اليمن، حيث اتّسمت أنظمتها بالوحدة الاجتماعية، والحكام اتخذوا لقباً «ملكياً»، فيما القبائل، غير المعروفة بأسمائها حينذاك، لم يكن لها حضور متنافر مع السلطة، وإنما كانت منصهرة في مجتمع ينعم بالأمن والرخاء. ولكن مع بدء الاختلال الاقتصادي، وما نجم عنه من اضطراب سياسي، شهدت المرحلة موجة واسعة من الهجرات القبلية باتجاه الشمال، بحثاً عن أماكن تتوافر فيها عناصر الاستقرار. ومن هذه القبائل، وفاق ما يذكره المؤرخ جواد علي: «حِمْير وكهلان، ومن مجموعة حمير، قضاعة (في رأي من جعل قضاعة من اليمن) ومن قضاعة: كلب وأسد، ومن أسد تنوخ. وأما مجموعة كهلان فتتألف من الأزد وهمدان ومذحج وطيء، ومن الأزد، غسان والأوس والخزرج»[5].
كانت الأزد أقوى هذه القبائل، وأكثرها انتشاراً، حيث تفرّعت منها، بالإضافة إلى ما سلف، خزاعة التي سادت في مكة لقرون ثلاثة بعد إخراج بني جُرهم منها. وكان هؤلاء معاصرين لهجرة النبي إبراهيم وابنه إسماعيل الذي اتخذ زوجة منهم، ومن ثم لبناء الكعبة رمزاً لعقيدة الحنيفية التوحيدية التي بشّر بها إبراهيم، وسادت على مستوى نخبوي في مكة، إذ أعاق انتشارها، تكريس عمرو بن لحيّ رئيس خزاعة، الوثنية بين قومه، ثم درجت على ذلك قريش بعدما ورثت السيادة من الأخيرة على مكة، معزّزةً بنفوذ تجاري بلغ ذروته مع هاشم[6] بن عبد مناف، مؤسس نظام الإيلاف، شبكةً تربط مكة بمصادر السلع وأسواقها. ولقد تكرست مع «الإيلاف» معادلة الدين ـ التجارة، عنصراً استقطابياً للقبائل التي ألفت التردّد إلى مكة في مواسم الحجّ،والكعبة حينئذٍ، وهي بيت الأصنام، احتفظت بقدسيتها في الوثنية، حتى إذا اختتمت القبائل طقوسها، تحوّلت إلى المتاجرة في الأسواق القريبة من مكة.
ومن القبائل اليمنية ذات الشأن، برزت كندة، قويةً مهيبة، بل متفوّقة على الأزد الشهيرة، في أنها أسّست «مملكة» خاصة بها في حضرموت، وتداولت السيادة مع بني كلب على دومة الجندل التي استهدفتها سريتان من الرسول، كما عقدت صلحاً معه أثناء غزوة تبوك. ومن كندة، الأشعث بن قيس الذي اعترف بالإسلام ثم ارتّد عنه، ربما توخياً لموقع ما في العهد الجديد. وقد تحقق له ذلك في عهد عثمان الذي عيّنه والياً على أذربيجان، ولكن سيرته إبان خلافة علي محاطة بالشكوك، خصوصاً بعد امتناعه عن تسليم خراج ولايته إلى بيت المال، ولطالما كان أكثر ارتهاناً لمصالحه الخاصة، وأقلّ صدقيةً في إيمانه بالإسلام. وعلى مثاله سار أبناؤه وأحفاده، فكانوا الأسرع في الولاء للحكم الأموي بعد اغتيال الخليفة الراشدي الرابع، ولم ينج الأشعث نفسه من الضلوع في هذا الاغتيال، حيث استضاف القاتل شهراً في بيته، قبل تنفيذ مهمته المشبوهة[7]. وعلى النقيض من الأشعث، الكندي الآخر حجر بن عَديّ الذي وُصف بأنه «من عظماء أصحاب علي»[8]، وكان قاتل معه في صفّين، وما زال جذرياً في خياره بعد «صلح» الحسن، مؤسساً حركة التّشيع، تيّاراً سياسياً في مواجهة الظلم والانحراف.
كانت القبائل اليمنية راجحة في فتوح المشرق وتداعياتها، وبدت الكوفة البؤرة التي تمركزت الغالبية فيها، متآلفة مع نمط اقتصادها الزراعي، الموائم لتراثها مما قبل الإسلام، فيما النمط التجاري في البصرة، شكل عنصر استقطاب للقبائل المضرية القادمة من الحجاز، إلا أن تكوينها الاجتماعي، كان خليطاً من الاتجاهين ولم يطغَ أحدهما حضوراً ودوراً على الآخر، ما جعلها أكثر استكانة في حياتها السياسية خلال العهد الأموي. ومن هذا المنظور، فإن الكوفة في غالبيتها اليمنية، الموالية للخليفة الراشدي الرابع، والمتأثرة بصورة ما بنهجه، حملت لواء المعارضة ولم تسلّم، ما يتعدى الظاهر، بشرعية العهد الجديد. ولم يستطع زياد بن أبيه الذي سبق أن فرض نظاماً قمعياً في البصرة، إخماد حركة الممانعة فيها، والتي اتخذت منحىً سرّياً بعد إعدام حجر ورفاقه.
ومن اللافت أن قبائل برمّتها، اندرجت في خطّ المعارضة، على صعوبة هذا الخيار الذي دفعت أثماناً باهظة في سبيله، فقد كانت همدان صافية الولاء لهذا الانتماء، كذلك خزاعة ونخع، فيما كانت كندة مخترقة من جانب بني الأشعث، إلّا أن ذلك لم يؤثِّر في دورها النضالي القيادي من أجل التغيير. ولكن بعد إعدام حجر خفت دور كندة لمصلحة خزاعة التي أدارت حركة الممانعة، وإن بوتيرة أقل اندفاعاً من الأولى، مما سينعكس على التنظيم الثوري الذي بدأ يُعدّ له منذ «الصلح»، مفتقداً وهجه السابق مع الكندي. ويمكن تفسير ذلك في الغموض الذي اكتنف دور المعارضة الشيعية، والغياب الملتبس لقادتها بعد وصول موفد الحسين إلى الكوفة.
أما نخع وهي ـ كما سبق القول ـ فرع من مذحج، شهرت مع بروز مالك بن الحارث المعروف بالأشتر. وكان قد تعرّف عليّاً أثناء توافد المتمردين من قبائل الأمصار إلى المدينة، احتجاجاً على سياسة الخليفة عثمان، مطالبين بتحسين أوضاعهم الاقتصادية ودفع ظلم الولاة من الأسرة الحاكمة عنهم. وبات الأشتر حينئذٍ مقرّباً من علي، ملتزماً بمواقفه، لا سيما بالدعوة إلى عدم الانجرار إلى الفتنة.
وعندما آلت إليه الخلافة أصبح قطباً في إدارته، مشاركاً في كل حروبه، حتى أن مؤرخاً وصفه بأنه «رجل الساعة في جيش علي»[9]. وحين قرّر الخليفة الجديد، بعد حرب البصرة، اتخاذ الكوفة مقرّاً له، كان له دور أساسي في التمهيد لذلك، محبطاً محاولة أبي موسى الأشعري، آخر ولاة عثمان عليها، في تثبيطه الناس عن البيعة لعلي وتوجيه ولائهم لمصلحة معاوية[10]. وحينذاك خرجت وفود الكوفة لملاقاته في «ذي قار» محطّته الأولى نحو العراق، وكان النخعيون أكثر حماسة لبيعته، وفي طليعتهم كميل بن زياد الذي رافق الخليفة من «المدينة»، وهاني بن هوذة، آخر ولاة الكوفة في عهده[11]. ويجدر القول في هذا السياق إن مذحج التي تنتمي إليها نخع، كانت لا تزال ـ باستثناء الأشاعرة ـ موالية لعلي وأبنائه، ولم يغب اسمها عن التداول بعد نزول مسلم بن عقيل في الكوفة، منتظمةً حينذاك في «رُبع» واحد مع بني أسد[12] حسب رواية الطبري.
وكانت همدان اليمنية ـ كما سبقت الإشارة من القبائل البارزة في الكوفة، وهي لم تغيّر في ثوابتها النضالية ضد الحكم الأموي، وقد انتظمت في إحدى الفِرَق (الأرباع) الأربع ـ إلى جانب تميم ـ للهجوم على قصر الإمارة[13]، ومنها أيضاً خُزاعة المتفرعة من الأزد، في صدارة القبائل الشيعية، إذ قاتلت مجتمعة في صفين إلى جانب علي، وذلك بقيادة سليمان بين صُرد على رأس رجّالة الميمنة، كما برز معه خزاعي آخر هو عبد الله بن بديل[14]. وبعد سقوط الخلافة الراشدية، استمرّت خزاعة معاندة في خطها الجذري، ومنخرطة في حركة النضال السرّي الذي كان عمرو بن الحمق الخزاعي آخر شهدائه[15]. ولكن خزاعة التي قُدّر لها اتخاذ دور أساسي في ثورة الحسين، بقيادة سليمان، ثاني أشهر رجالات الشيعة بعد حجر بن عدي، لم يرد ذكرها في التنظيمات العسكرية السالفة (الأرباع)، كذلك على الرغم من أن الدعوة للحسين إلى الكوفة انطلقت من دار سليمان، فإن غموضاً تامّاً ـ بُعيد ذلك ـ يحيط به وبآخرين من القادة الكبار، مما لا نجد تفسيراً له في الروايات التاريخية.
وتبقى بجيلة أو بجلة، وهي من كهلان القحطانية[16]، وقد وصف المؤرخ المعاصر نفسه، رجالها، بأنهم «فدائيو أهل العراق»[17]، وكان علي قد أوفد بعد بيعته بالخلافة أحد رؤسائها (جرير بن عبد الله) محاوراً لمعاوية، إلا أنه فشل في مهمته. بيد أن بجيلة لم تكن بين القبائل المشتهرة، وكـاد يغيب ذكرها عن المرويات، لـولا سطوع رفاعة بن شدّاد على رأس قبيلته وهو حينئذٍ شاب في صفين، وأمضى حياته مناضلاً قوي الشكيمة في تيار التشيع حتى قُتِل مع المختار الثقفي[18]، وقد تنطبق مقولة المؤرخ السالف على رفاعة، ولكنّ في تعميمها على قبيلته مبالغة واضحة، من دون أن نغض النظر عن الديباجة الصحافية في أسلوبه، والتي ورد منها على سبيل المثال أنموذجان: «رجل الساعة» بالنسبة إلى الأشتر، و«فدائيو العراق» بالنسبة إلى بجيلة.