كتاب "إبراهيم بن الأشتر "، كان الأشتر في صخب التداعيات الخطرة لخلافة الإمام، قائداً على مقدمة جيشه في البصرة وصفّين، ورجل المهمات الكبرى، ما شكّل إحراجاً لمعاوية، فأخذ يخطّط لاغتياله، حتى إذا تحقق ذلك اختلّت الجبهة العراقية ولم يعد ممكناً إعادة تشكيلها على
أنت هنا
قراءة كتاب إبراهيم بن الأشتر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الفصل الأول
الأشتر في صخب فتنتين
هو ـ كما سلف ـ مالك بن الحارث، من نخع، أحد فروع مذحج القحطانية، ولا نعرف عنه غير ذلك في مطالع الإسلام. وكان أول ما تردّد اسمه في فتوح الشام، حيث كان في عداد الذين وجّههم أبو عبيدة ابن الجرّاح إلى «فحل» حسب رواية سيف في تاريخ الطبري[19]. ولعله حينئذٍ شارك في اليرموك، المعركة الحاسمة ضد البيزنطيين (الروم). وفي أعقابها كتب الخليفة عمر بن الخطاب إلى أمير الجيوش في الشام بأن يصرف «جند العراق إلى العراق»[20] دعماً لحملة سعد بن أبي وقاص[21]. ولم يكن ليحدث ذلك، لولا أن حُسم الموقف العسكري في الشام بعد معركة اليرموك، و«كان ممن أرسل ـ حسب ابن الأثير ـ الأشتر وغيره»[22].
وفيما يتوقّف الدور الشامي للأشتر لدى الطبري عند معركة «فحل» (14هـ)، يروي اليعقوبي أن أبا عبيدة «وجّه الأشتر على جمع إلى الروم، فقتل منهم مقتلة عظيمة»[23]، من دون تحديد مكان «المقتلة» وزمانها. وعلى نحو ما أورده اليعقوبي، يروي ابن الأثير أنّ أبا عبيدة «سيّر.. جيشاً مع ميسرة بن مسروق العبسي، فسلكوا درب غدراس، من أعمال أنطاكية في بلاد الروم. وهو أول من سلك ذلك الدرب، فلقي جمعاً للروم معهم عربٌ من غسان وتنوخ وأياد، يريدون اللحاق بهرقل، فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم لحق به مالك الأشتر النخعي مدداً من قِبل أبي عبيدة وهو بأنطاكية، فسلِموا وعادوا»[24].
كان ذلك في سنة خمس عشرة للهجرة، ممّا يتفق ورواية اليعقوبي بشأن هذه الحملة في تاريخها وبعض تداعياتها، والتي ربما كان الهدف منها اختراق ثغور البيزنطيين، وفي الوقت عينه درء الخطر عن الشام وتحصين أمنها. أما وجود ابن الأشتر في الحملة أو التحاقه بها، فهو ما يؤكد على مشاركته في معركة اليرموك السابقة على تلك الحملة، مع العلم أن ثمّة التباساً لدى الطبري بصدد المعركة إذ يُدرجها في العام الثالث عشر للهجرة[25]، خلافاً للبلاذري والمصّنفين المعاصرين له باتفاقهم على حدوثها في العام الخامس عشر[26]. كما يؤكد أن الأشتر، بعد الحملة على الثغور، لم يعد منخرطاً في القوة الشامية، حيث أصبحت نخع بعيد ذلك جزءاً من النسيج القبلي في العراق، وبدا حنيئذٍ أحد رؤسائها البارزين.
هذا ما اقتصرت عليه المرويات عن الأشتر في عهد الخليفة عمر ابن الخطّاب، ومن اللافت، وهو المحارب الجسور، أنه لم يرد ذكرٌ له في الفتوحات الشرقية التي كانت تضخّها بالجنود قاعدتا البصرة والكوفة. فمن المستبعد خلوده إلى السكينة حينذاك، من دون أن يسهم وقومه في الحملات التي كانت فريضة على المسلمين. إذ إن المرويات المهتمة بأحداثيات الحروب، غالباً ما ركّزت على قادتها الكبار. وعلى سبيل المثال، نرى ابن خياط في روايته عن فتح قيسارية (19هـ)، يكتفي بالقول: «أميرها معاوية بن أبي سفيان وسعيد بن عامر بن حذيم، كل أمير على جنده، فهزم الله المشركين...»[27]. كما أن فتحاً من أهمّ ما حقّقه العرب المسلمون في عهد عمر، وهو الذي جرى في «نهوند» من بلاد فارس، نجد الطبري، على الرغم من نزوعه إلى التفصيل، ومن ثمّ إسهابه، خصوصاً في هذه المعركة (21هـ)، منهمكاً في حوارات ورسائل متبادلة بين قيادتي الطرفين، فضلاً عن الغنائم، أكثر من تنظيم الفِرق المقاتلة ودور قادتها وتأثيرهم في اجتراح النصر[28].
وإذا كان الأشتر شبه غائب عن الواجهة في عهد عمر، فإنه يظهر بقوة في السنتين الأخيرتين من عهد عثمان، حيث تراجعت حينذاك عمليات الفتوح، كذلك الحوافز لدى القادة وجندهم، واستكانت القبائل إلى شيء من الدعة، كما استفزّتها في المقابل ممارسات لم تتنّبه لها من قبل، مع استئثار بني أمية بالسلطة واستغلالهم الثروات في بلدان فُتحت بسيوفها، ممّا لم يكن مسموحاً به من قبل.. حتى إن الصحابة الكبار حال عمر دون انتشارهم في الأمصار، تفادياً للوقوع في شرك نزعاتهم الخاصة، وهم تجّار في الأساس، فيسيئوا ـ وهم النخبة ـ للإسلام[29]. ولذلك يؤثرون، بعد اغتياله، خليفةً ضعيفاً (عثمان)، ترك لهم العنان لإرواء نزعاتهم في تملك الضياع والأموال[30]. كما خرق الخليفة الجديد القواعد في تسليم السلطة الفعلية لأقاربه، فكان مروان ابن الحكم يدير شؤونها في المدينة، ومعاوية مطلق اليدين في الشام، والآخرون من الأسرة يتداولون بتعسّفٍ إدارة الولايات.
وكان أول نقد علني لسياسة الخليفة وأعوانه، أطلقه صحابي من النخبة هو أبو ذرّ الغفاري في العام الثلاثين للهجرة، مندّداً باكتناز الأموال لدى فئة محظية، مقابل حرمان يستبدّ بشرائح واسعة في المجتمع. فجاءت عبارته الشهيرة: «يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء»[31]، بمثابة إنذار للنظام، لتحدث هزّة فيه، وترهص بالثورة عليه. وإذا كانت صرخة الغفاري اتخذت طابعاً دينياً ـ اجتماعياً، فإن الكوفة، بؤرة قابلة للتفجّر، تلقفت رسالته، وما لبث الأشتر بعد نحو ثلاثة أعوام، أن بدأ يتعرّف معالم دوره، ثائراً على الظلم ومقاوماً ضد الانحراف، إلى ريادته في التمرُّد على السلطة ممثلةً بوالي الكوفة سعيد بن العاص الأموي، الذي اغترّ بموقفه، والمتملقون من حوله يشدّون أزره، إلى حدّ التباهي بأن «السواد» ملك (بستان) له، كما سواد الناس خاضعون لـ «ملكه». فلم يتأخر الأشتر. وكان في مجلسه مع وجوه أهل الكوفة في الردّ عليه: «أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك؟»[32]... وكانت تحدوه في ذلك الموقف الجريء دوافع إصلاحية ذات بعد اقتصادي. ما يتجلى في كتابه ـ حسب رواية المسعودي ـ إلى الخليفة، بعدما لجأ سعيد إلى المدينة تهيّباً من سخط أهل الكوفة عليه بتحريض من الأشتر، وفيه يقول الأخير: إنا والله ما منعنا عاملك.. لنفسد عليك عملك، ولكن لسوء سيرته فينا وشدة عذابه، فابعث إلى عملك من أحببت»[33].