كتاب "إبراهيم بن الأشتر "، كان الأشتر في صخب التداعيات الخطرة لخلافة الإمام، قائداً على مقدمة جيشه في البصرة وصفّين، ورجل المهمات الكبرى، ما شكّل إحراجاً لمعاوية، فأخذ يخطّط لاغتياله، حتى إذا تحقق ذلك اختلّت الجبهة العراقية ولم يعد ممكناً إعادة تشكيلها على
أنت هنا
قراءة كتاب إبراهيم بن الأشتر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الفصل الثاني
الأشتر في «النهج»
لفت الأشتر الأنظار منذ فتوح الشام، حيث تردّد اسمه في معركة اليرموك[93]، ومن ثمّ أحد قادة الحملة التي تعقبت فلول الروم، قبل أن يندرج بهذه الصفة بين الفرسان الملتحقين بقوات سعد بن أبي وقّاص في العراق، في القادسية إلى جانب هاشم بن عتبة والأشعث بن قيس وقيس بن هبيرة[94]. وباستثناء هاشم وهو ابن أخي سعد، المتحدّر من «زهرة» القريشية، كان الآخرون ينتسبون إلى نخع وكندة ومراد من القبائل اليمنية التي انتشرت بكثافة في الكوفة، امتداداً إلى البصرة، فالمشرق الإسلامي.
يغيب اسم الأشتر بعد ذلك، وربما كان الأمر خاضعاً لتركيبة الجيوش، المتشكلة من وحدات قبلية، لكلٍ منها رئيسها الذي يتلقى الأوامر من «أمير الجيوش»، ولم يكن الأشتر حينذاك رئيس قومه في القادسية، وإنما انعقد لواء نخع لزيد بن عبد الله. ويروي الدينوري أن زيداً كان «صاحب الحملة الأولى وكان أول قتيل، فأخذ الراية أخوه أرطأة فقُتل..»[95]، مما يعني أن الدور الطليعي كان لفرسان نخع في هذه المعركة. بيد أن الروايات تقتضب في التفاصيل، مركّزة على القادة الكبار، ممن ينتمون غالباً إلى المهاجرين وقليلاً جداً إلى الأنصار، فيما يأتي في الصف الثالث رؤساء القبائل، ولكن الأخيرة لم تعدم قيادات أبلت في الحروب، من دون أن تنعقد لها الرئاسة، وربما أغفلت الروايات التاريخية التنويه بها. وفي المحصلة فإن شخصية قيادية مثل الأشتر، لا بدَّ أن تكون في صميم تلك الفتوحات، حتى فتور حركتها خلال عهد الخليفة عثمان، وحينذاك أخذ دورها في السطوع، مناضلة ضد التسلّط والاستئثار انطلاقاً من الكوفة.
ولعل الهدف من إعادة تظهير الدور القيادي للأشتر، الدخول على نطاق أوسع إلى عالمه المفعم بالفروسية، مجاهداً قيمياً، كانت الثورة على الظلم من أبلغ سماته، ملتقياً هنا مع خطّ الإمام، حتى قبل تعرّفه في المدينة. فلم تكن لدى الأشتر طموحات شخصية، وإنما على مدار التجربة ما انفك ذلك المناجد تحت رايـة الإسلام وتصويب مسيرتـه، ما ابتغاه من قبل ومن بعد، وما كانت المناصب تعنيه، حتى في خلافة علي الأكثر اندراجاً فيها. فقد كان خياره حاسماً في الانحياز إلى الإمام، إلى السلطة العادلة المائجة في خطابه، لا سيما تلك الكلمات التي رسخت يقيناً في عقله: «إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لا يقرّبان من أجل ولا ينقصان من رزق، وأفضل من ذلك كلّه، كلمة عدل عند إمام جائر»[96].. لقد عرف الأشتر إذاً أن يختار، والأفضل هو ما ارتقى إليه، ولم ينشز عن ذلك في سيرته المتخمة بالأخطار من كل صوب.
لم يألف الأشتر غير جبهات الحرب، والأخيرة ما انفكّت طاغيةً على عهد الخليفة الإمام، الذي ألف بدوره صاحبه الشكيم، الحاضر الذهن، النقي الإيمان، الراجح الرأي، فاستبقاه معه، قائداً ونصيحاً في آن. ولم تكن سوى مرة واحدة فارقه فيها لمهمة عصي حلّها على غيره في مصر، حيث اغتيل قبل وصوله، كما لقي هذا المصير محمد بن أبي بكر، إذ تربص به أحد الموالين لمعاوية (معاوية بن حديج الكندي) وقتله على صورة مريعة، بعد اتهامه بالتعصب ضد اليمنية[97]. وكان الإمام أوفد الأشتر إلى مصر في وقت كان يجري الإعداد للتحكيم، وتشتد الحاجة فيه إلى وجوده، مما يرجح أن إيفاده إلى مصر لمعالجة أزمتها وليس عاملاً عليها. وكانت مصر تشكّل حلقة التوازن الأخيرة في الصراع بين علي ومعاوية، أو لنقل آخر الأوراق في يد الخليفة، خصوصاً بعدما ظهر من اختراق واضح لجبهته، أدى إلى فرض «التحكيم» عليه، ما يبدو في اختيار الأشتر، رسولاً إلى مصر، وفي محتوى الكتاب ـ المشار إليه سالفاً ـ الذي حمله معه، ما يعبّر عن ثقته المطلقة بصاحبه، عاقداً عليه الآمال الكبار لإحباط المؤامرة من جانب معاوية للسيطرة على مصر.
* * *
ولو سبرنا كتب الإمام وتوجيهاته لعمّاله وقادته وأصحابه، لن نقع على مثل هذا الكتاب، ليس فقط في بلاغته وعمقه فحسب، بل في ما يكنّه الإمام في نفسه من تقدير لقائده الأثير، حين يصفه بأنه «سيف من سيوف الله». هذا «السيف» افتقده علي في وقت نال الوهن أشده من جبهته، ولا نبالغ في القول إن مصر حدّدت مسار الصراع لغير مصلحته. فمن التحكيم، إلى تمرّد الخوارج، إلى تصفية الأشتر، لم تعد مجدية متابعة الحرب التي امتد أوارها إلى العراق، واتخاذ الصراع منحى عراقياً ـ عراقياً، منحرفاً عن منحاه الأساسي في الشام، إذ كان ذلك يحتاج إلى إعادة نظر في بناء قوته العسكرية، وهي في تكوينها وحدات غير متجانسة ليست مؤهلة بعد لمواجهة جيش قوي ومتجانس في الشام. فكان لا بدَّ من الانتظار، من دون أن تُفهم المفردة الأخيرة على أنها تسليم بالأمر الواقع، بقدر ما هي تحفّز للثورة عليه، واستعادة لزمام المسيرة، والنخب لا تزال معقد الآمال.. فهل بقي من العمر متّسع لذلك؟ لعل معاوية، أكفأ من يجيب عن مثل هذا السؤال؟
بين الإمام والأشتر «كتاب» و«عهد». وإذا كان الأول مبتسراً في التنويه بصفات موفده، معوّلاً على شجاعته وحكمته، فإن الثاني كان من الإسهاب والعمق، ما جعله نصّاً مُميّزاً في «النهج»، وهو «أطول عهد وأجمع كتبه للمحاسن» كما جاء في تقديم الشيخ محمد عبده له[98]. وقد استهلّه بالأمر «بتقوى الله وإيثار طاعته واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسُنته.. وأن يكسر نفسه من الشهوات ويزعها[99] عند الجَمَحَات، فإن النفس أمّارة بالسوء إلّا ما رحِم الله.. فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك وشحّ بنفسك عمّا لا يَحلُّ لك.. وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم»[100]. والإمام الذي يسكن الله في عقله، لا ينفك يتحدّث بكتابه، ويقبس من نوره النهج القويم لكل حاكم بما يحدّد علاقته بالرعية، فلا ينزع إلى الاستئثار والاستغلال (فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يُطامِن (يخفض) إليك من طِماحك، ويكفّ عنك من غربك ويفي إليك بما عَزَب عنك من عقلك)[101].