أنت هنا

قراءة كتاب إبراهيم بن الأشتر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
إبراهيم بن الاْشتر

إبراهيم بن الأشتر

كتاب "إبراهيم بن الأشتر "، كان الأشتر في صخب التداعيات الخطرة لخلافة الإمام، قائداً على مقدمة جيشه في البصرة وصفّين، ورجل المهمات الكبرى، ما شكّل إحراجاً لمعاوية، فأخذ يخطّط لاغتياله، حتى إذا تحقق ذلك اختلّت الجبهة العراقية ولم يعد ممكناً إعادة تشكيلها على

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8

جرت وقائع معركة البصرة (الجمل) في العام التالي لخلافة علي (36هـ)، ولم يبغته الأمر الذي طالما اعتاده، بعدما تكتّلت ضده قريش بمهاجريها الكبار، وجمهورها غير «المهاجر» لإقصائه عن الخلافة، حتى إذا آلت إليه، وقد استنفدت ذاتها، كانت الحرب وسيلتها لإسقاطه. ولكنه، مكتنهاً ما عظُم من التحديات الآتية، لم يُخلِ الساحة للمتآمرين عليها، ولم ينثنِ عن ركوب الخطر من أجل المبدأ الذي رسخ في وعيه المبكِّر، قضيةً غير قابلة للمساومة، ودائماً كانت النخبة سبيله إلى بناء المجتمع القيمي على قاعدة العلم والعدالة. هذه النخبة التي اختارت ركوب الخطر معه، واختبرها في حرب البصرة، كانت ما يُعوّل عليه ضد أولئك الذين قلبوا المفاهيم وعبثوا بالمصطلحات، وحوّلوا الباطل حقاً.. هؤلاء ـ كما وصفهم ـ «اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً، واتخذهم له أشراكاً.. فنظر بأعينهم ونطق بألسنتهم، فركب بهم الزّلل وزيّن لهم الخطل»[75].
وكان الأشتر من صفوة هذه النخب التي أنتجتها حرب البصرة، حيث كان المقدام فيها، وكشف فيه الإمام مقاتلاً جسوراً وعقلاً راجحاً مفعماً بالإيمان، فبات الأقرب إليه ورجل المهمات الصعبة مما يفسّر عدم اندراجه بين ولاته، باستثناء حالات وقتية، حين عيّنه على الجزيرة[76]، أو على مصر[77] في مهمة لم تكتمل فصولاً، للحؤول دون سقوطها في يد معاوية الذي استخدم شتى الوسائل لفكّ الحصار عن الشام. وفي مروية ابن الأثير ما يعبَّر عن قلق معاوية الشديد في هذا الصدد خصوصاً إبان ولاية قيس بن سعد ـ وهو من صقور الإمام ـ عليها، «مخافة أن يُقبل علي في أهل العراق، وقيس في أهل مصر، فيقع بينهما..»[78].
ولقد تآمر على قيس خصوم له في جبهة الإمام، في وقت كان معاوية يحاول إغواءه بالانضمام إليه. ولكن قيساً على الرغم من تذمّره ممّن انتقدوا طريقته في إدارة ولايته، ما لبث أن تخلى عن منصبه، من دون أن يتخلى عن ولائه الشديد للخليفة.
ولعل إثارة هذه المسألة، كان القصد منها، الوقوف على تركيبة الجبهة العراقية غير المتماسكة، وضعف الولاء للقيادة فيها. فثمة شخصيات خضعت لاجتهادات خاصة بها، وثمة قبائل ما انفكّت تستفزّها العصبيات، أكثر مما يعنيها الالتزام بالمبدأ. وكـان اختيار جرير بن عبد الله البجلي، رسولاً للحوار مع والي الشام، يعكس واقع الجبهة المضطربة في الكوفة، إذ قدّم نفسه لهذه المهمة، بناءً على أن جلّ قومه مع معاوية، وقد ينجح في جمع كلمتهم على طاعة الإمام[79]. ولكن الأشتر حذّره منه قائلاً ـ حسب رواية اليعقوبي ـ «لا تبعثه فإن هواه هواهم»[80]، إلا أن الإمام، انطلاقاً من إدراكه المسبق لموقف معاوية الرافض للحوار، سواء أكان الموفد إليه معتدلاً أم متشدّداً، أجاب الأشتر: «دعه يتوجه، فإن نصح أدّى أمانته، وإن داهن كان عليه وزر من أؤتمن ولم يؤدِ الأمانة وأوثق فخالف الثقة فوالله ما أردتهم إلّا على إقامة حقّ، ولا يريدهم غيري إلّا على باطل»[81]. وفي النتجية كان الفشل الذريع ما أصابه جرير، وبالتالي كان ذلك إيذاناً بالحرب.
وهكذا كان الخيار الذي لا بدَّ منه، وقد عبّر عنه الإمام في ما يشبه الدعوة إلى التعبئة، كما جاء في رواية الدينوري: «أيها الناس سيروا إلى أعداء السنن والقرآن، سيروا إلى قتلة المهاجرين والأنصار...»[82]. وما كاد ينهي كلامه، حتى انتفض رجل من فزارة، وكانت الأخيرة أيضاً على جبهة الشام، مخاطباً الإمام قائلاً: «أتريد أن تسير بنا إلى إخواننا من أهل الشام فنقتلهم.. لا نفعل ذلك »[83]، وكان الأشتر حاضراً، فلم يتردد في قمع «تمرّد» الفزاري[84] المشبوه، في تثبيطه القبائل التي كان لبعضها امتداد على جبهة الشام، وجاء ذلك بمثابة رسالة للمتخاذلين، المؤيدين ضمناً لموقف الفزاري السالف، فسارعوا حينئذٍ إلى الانتظام في خيار الحرب. ولقد تعملق الأشتر في تلك اللحظة الحاسمة، فلم يخدش حماسته شيء مما جرى، مقلِّلاً من شأنه، كما بدا ـ حسب رواية الدينوري ـ في قوله للإمام: «لا يُؤيسنك من نصرتنا ما سمعت من هذا الخائن، إن جميع من ترى من الناس شيعتك، لا يرغبون بأنفسهم عنك، ولا يحبّون البقاء بعدك، فسرْ بنا إلى أعدائك، فوالله لا ينجو من الموت من خافه، ولا يُعطى البقاء من أحبه، ولا يعيش بالأمل إلّا المغرور»[85].
ولم يطل الأمر حتى بدأ المقاتلون يتجمّعون في معسكر «النُخيلة»، وما لبث الإمام أن غادر الكوفة مستخلفاً عليها أبا مسعود الأنصاري، أحد السبعين الذين بايعوا الرسول في العقبة الثانية[86]. ثم تابع المسيرة حتى «البليخ»[87]: وعبر الفرات بواسطة جسر أُعدّ لذلك، موجّهاً اثنين من قادته: زياد بن النضر وشُريح بن هانئ، بعدما بلغه خبرٌ عن تقدّم أبي الأعور السلمي في عدد كبير من فرسان الشام. فسارع إلى إلحاق الأشتر، بزياد وشريح، قائداً عليهما، حيث جرى اقتتال شديد، لم يجد السلمي بعده سوى التراجع منسلّاً في الظلام إلى معسكره»[88] وحينذاك بدأت حروب صفين.
ليس يعنينا الدخول في تفاصيل ما جرى من قتال، في ذلك المكان القريب من الرقّة على الفرات، فهي معروفة ومتداولة في المصنفات والأبحاث، وإنما هدفنا من ذلك، الإضاءة على شخصية استثنائية، تجذّرت عقيدة ومبدأً في خطّ الإمام، ولم تفارقه حتى فصل بينهما الموت، عنيتُ بها الأشتر الذي لم يلحج قط سيفه.. إلّا بعد سقوطه ضحية مؤامرة ممّا ألفه معاوية في تصفية أعدائه[89]. حينذاك أدرك الأمام أن الحرب انتهى نصفها الآخر، بعدما تضعضع الأول في مؤامرة التحكيم. كان ثمة قادة عظام، قاتلوا واستبسلوا واستشهدوا تحت لواء الإمام في صفين، ولكن الأشتر كان الأكثر حضوراً في ساحاتها، حيث واكبها بذاتٍ متوثَّبة صافية، قائداً على الميمنة دائماً، ومحرّضاً على القتال حيث يجد استرخاءً أو تلكّؤاً، ومعترضاً على التحكيم الذي وجد وفيه هدراً للوقت لمصلحة معاوية. ولقد صدق الأخير في وصفه الأشتر باليد اليمنى لعلي، الذي شعر لأول مرة بالانكسار، وتكشّفت سافرةً أمامه الحقائق، بأن لا حقّ بعدُ يؤخذ بناصيته، وأن الباطل ماج في النفوس غيّاً وفساداً، وأن الإسلام ينكفئ قيماً، إلى شعارات جوفاء.. فما أقسى ذلك على أول المؤمنين به، المولود في الكعبة، الناشئ في بيت الرسول، والداخل إلى «مدينة العلم» من بابها العريض، فلو انكشف له الغطاء ما ازداد إلَّا يقيناً.
أما الأنموذج فكان الأشتر، كما عصب النخبة التي راهن عليها الإمام، وهو مقبلٌ بغير حماسة على البيعة بالخلافة[90]، ومُكتنه سلفاً أنها طريقٌ موحشة لا يبدّد ظلمتها سوى أولئك الذي عمرت قلوبهم بالإيمان و«هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون»[91] كما وصفهم في «نهجه البليغ»، تلك هي النخبة التي ناضل من أجلها، وتوالدت على هذه الصورة عبر الأزمنة، وكان الأشتر من رموزها الكبار. وقد ورد عن الأخباري أبي مخنف أنه «عُثر، بعد هلاك الأشتر في جعبة مولى له، على رسالة كانت موجّهة إلى أهل مصر، وفيها: «من عبد الله أمير المؤمنين إلى أمّة المسلمين الذين غضبوا لله حين عُصي في الأرض وضرب الجوْر بأرواقه على البَرّ والفاجر، فلاحقّ يُستراح إليه، ولا منكر يُتناهى عنه.. فقد بعثتُ إليكم عبداً من عبيد الله لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعادي حذار الدوائر، أشدّ على الكفّار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له وأطيعوا، فإنه سيف من سيوف الله، لا نابي الضريبة، ولا كليل الحدّ، فإن أمركم أن تقدموا فأقدموا، وإن أمركم أن تنفروا فانفروا، فإنه لا يقدم ولا يحجم إلّا بأمري، قد آثرتكم به على نفسي لنصحه لكم، وشدّة شكيمته على عدوكم، عصمكم الله بالهدى وثبَّتكم على اليقين»[92]. إنها شهادة لم يفز بها أحدٌ غير الأشتر من أصحاب علي الذي اصطفاه منذ الفتنة الأولى، فلم يُبدِّل مذّاك خطّ سيره، ولم ير إلى غير الحق سبيلاً ونهجاً.. ولعله حين شعر بالسّم يسري في دمه، تجرّع الأسى، مؤثراً حينها لو كان ذلك في ساحة الحرب، المكان الطبيعي لنهاية أمثاله العظماء.

الصفحات