كتاب " القانون ابن الحياة " ، تأليف د.عبد الجبار الجبوري ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب القانون ابن الحياة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
القانون ابن الحياة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
منذ إعلان ميثاق الأمم المتحدة وما جاءت به المادة (55) منه التي تضمنت (أن على الأمم المتحدة أن تعمل على أن تشيع في العالم احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للمجتمع بلا تمييز بسبب العنصر أو الجنس أو اللغة أو الدين) وحتى صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10/12/1948 والبشرية عبر مؤسساتها الدستورية وغير الدستورية، الرسمية وغير الرسمية، تعمل على بناء المفاهيم والقيم الإنسانية والمبادئ السامية، التي تنشر العدل والمساواة بين الناس من أجل حياة أفضل للإنسان، من خلال التشريعات المختلفة التي تقنن القوانين في جميع مجالات الحياة العامة والخاصة للإنسان متأثرة بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، التي يمر بها المجتمع في مراحله التاريخية المتطورة عبر الأحداث والمشاكل الفردية والجماعية. فما كان قاعدة وقانوناً في المراحل السابقة أصبح استثناء في هذه المرحلة. وما كان استثناء قد تبدل إلى قاعدة بسبب أن البداهات السابقة التي كنا نعيشها في مرحلة تاريخية معينة قد خرجت على إطار البداهة وأخلت مكانها لبداهات أخرى، لأن البشرية دخلت عصراً جديداً وعالماً جديداً، هذا العالم الذي يقوم على قواعد من المفاهيم والنظريات والقيم الجديدة التي استولت على فكر الإنسان الأخلاقي وسلوكه العملي وجعلته يفكر ويتحرك في محيط جديد من المعاني التشريعية والمفاهيم القانونية لتكون مقبولة من الجميع.
لقد ساهمت في عملية التشريع وتطويره مجموعة من النظريات الاجتماعية والمذاهب القانونية التي يؤمن بها عدد كبير من رجال الفكر والفقه والقانون والتشريع، الذين عملوا على تحويل هذه الأفكار إلى مبادئ ونصوص وقواعد قانونية عن طريق صياغتها صياغة قانونية بواسطة التشريع، الذي يشرف عليه أولئك المشرّعون والفقهاء والفلاسفة في مختلف المجالات الحياتية العامة والخاصة.
ومما ساعد على تطوير المبادئ التشريعية وإنمائها وعملية التقنين، إقدام نابليون في فرنسا على تقنين القانون حيث ساد في فرنسا في ذلك الوقت مذهب (التفسير)، في حين ساد في ألمانيا المذهب (التاريخي) إلى جانب المذهب (الاجتماعي)، الذي يعتمد على الحدث الاجتماعي على اعتبار أن القانون هو حادث اجتماعي (ابن الحياة) بالدرجة الأولى ويجب دراسته عن طريق ملاحظة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والعوامل التي تؤثر فيها.
إلى جانب هذه المذاهب التشريعية، هناك المذهب (الإرادي) الذي (يرى أن الظاهرة القانونية ناشئة عن تصرفات إرادة الحكام)، والمذهب (الوضعي) الذي (يرى في الظاهرة القانونية موضوعاً صادراً عن إرادة الحاكم وحده أو بالاتفاق مع الآخرين)(1).
وكان لبعض الفلاسفة والمفكرين في التشريع والقانون والحياة أمثال (أوغست كونت) و(ميكافيلي) و(بودان) و(هوبز) و(لوك) و(روسو).... إلخ أثر كبير في تطوير فلسفة القانون والتشريع في جميع ميادين الحياة، متأثرين بالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية التي سادت في تلك المراحل الزمانية والمكانية.
ولحضارة وادي الرافدين جذور تاريخية قانونية قديمة. حملت إلى الإنسانية أول مبادئ العدل والمساواة وحرية الإنسان والموازنة الدقيقة بين حقوق المواطن وواجباته. فتراث العراق التشريعي والقانوني هو (اتصال شرعي حضاري وأخلاقي للمشرع حمورابي الذي حدد مبادئ واضحة ووسائل أخلاقية كفلت حرية الإنسان وضمنت مشاركته في الحياة بكل ميادينها. ورعت حياته وألغت كل وسائل التمييز بين أبناء المجتمع مقدماً لذلك بقوله: (إني حمورابي قد شرعت هذه القوانين حتى لا يستغل القوي الضعيف)(2).
وقد اتصل هذا الجذر التاريخي التشريعي بإرادة الخير التي حملتها طلائع الفتح الإسلامي المتمسكة بقوانين السماء وسيرة رسول الإنسانية محمد (ص) ووصايا الخلفاء الراشدين للولاة والأمصار التي كان مصدرها الوثيقة الدستورية التاريخية التعاقدية المحمدية (وثيقة المدينة) التي تعتبر أول وثيقة دستورية تعاقدية في تاريخ التشريع الإنساني.
واليوم يرتبط هذا الإرث الإنساني في التشريع والتقنين من عصر حمورابي والفتح الإسلامي بمبادئ وأفكار فلاسفة القانون والتشريع من جهة، وشرائع الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي استمدت أصولها من حياة الإنسان والأمم المختلفة من جهة أخرى.
إن تقاليد الحياة وتطورها وظروفها المختلفة أقوى من جميع القوانين السابقة، لأن الحياة قادرة على تغيير كل القوانين التي لا تحترم الإنسان وتشيع الأمن والحرية والسلام في نفسه. ولأن تقاليد وظروف الحياة متطورة فإنها قادرة على فرض القوانين التي تنسجم ومتطلبات تلك الحياة وظروفها، مما يؤدي ذلك إلى تشريع القوانين الواقعية التي تحمل معاناة الإنسان بكل قوتها لتكون تلك القوانين وسيلة لتطوير الحياة التي تطمح إليها كل شعوب العالم.
إن هذا الاتصال الحضاري في التشريع والتقنين لا يتناقض مع ضرورة الاستفادة من التجارب العالمية في التشريع، بل بالعكس (لأن النظام القانوني الأصيل هو الذي يأخذ في الاعتبار الترابط العمودي والأفقي للحضارة الإنسانية).
فالقوانين ظاهرة اجتماعية لها صفة الديمومة والبقاء (فالقانون عندما لا يحقق أهدافه نتجاوزه بقانون وليس بخلاف القانون)(3) ولأن القانون ظاهرة اجتماعية فهو نتاج (ابن الحياة) الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة التي يمر بها المجتمع. لذلك لا يمكن للقانون أن تكون حياته أطول وجوداً من حياة ووجود المجتمعات والظروف التي تمر بمرحلة تشريع تلك القوانين. لأن المجتمع بطبعه متطور، والظروف بطبيعتها نامية ومتطورة أيضاً. وهذا التطور والنمو والتغيير في الحياة والظروف يفرض قوته على مقاومة الأفكار التي تعتبر القوانين الوضعية بحكم القوانين (الإلهية) مقدسة يتعذر تجاوزها بالتبديل والتعديل والإلغاء عن طريق تشريع وتقنين قوانين جديدة تستحقها المرحلة الحياتية التي يمر بها المجتمع لتعبر عن متطلباته تعبيراً صادقاً بعيداً عن التحجر والجمود والقدسية.
فالقانون الذي يشرع هنا قد لا ينسجم مع مجتمع آخر هناك، والسبب في ذلك أن القانون ابن مرحلته (ابن الحياة) ولأن جدلية الربط بين التشريع والقانون والحياة لم تعد جدلية جامدة تجعل التشريع حقاً مطلقاً لهذا الفقيه دون غيره، أو تجعل التقنين وقفاً لهذه الفلسفة أو تلك. وإنما أصبح التشريع ملكاً عاماً لكل إرادة قانونية واعية متطورة تسعى لتحقيق الحياة الآمنة وخدمة البشرية. إضافة إلى ذلك، إن التقنين وسيلة مشروعة أضافت إلى الفكر القانوني الوضعي ثروة جديدة من المبادئ والمفاهيم القانونية الحضارية المعاصرة التي رافقت عملية التطور والتعديل والإلغاء، وارتبطت بالإرث الحضاري القانوني الذي يعتبر القانون (ابن الحياة) الذي لا ينام على وسادة من الأفكار الجامدة، بل يستيقظ بين فترة وأخرى على منظومة قانونية حية من الأفكار والمبادئ والقواعد العادلة التي تجسد مقولة أن (القانون ابن الحياة) وأن جدلية الربط بين التشريع والقانون والحياة هدف كل رجال الفكر والقانون وفقهاء التشريع، لأن هذا الهدف يحقق تشريع القوانين الإنسانية التي هي وليدة الأفكار والمبادئ والظروف الجديدة من أجل خلق حياة أفضل ومجتمع متطور يخدم البشرية بشكل عام.
المؤلف
1434هـ/ 2013م