كتاب " مواطنون من جنسية قيد الدرس " ، تأليف محمد عيتاني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب مواطنون من جنسية قيد الدرس
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

مواطنون من جنسية قيد الدرس
عاد إليّ الوعي: حي أنا كل الحياة. لأتأكد ضربت جدار البراد الجليدي فارتج كطبل عجيب. سجين إذن أنا هنا يجب أن أخرج من هذا الصقيع المميت. بكل قوتي رفست الباب مرة، ثم مرة ثم مرة. صوت نسائي صاح مرتعباً من الخارج «شو هيدا؟! يا رب تنجينا. ولي... ي.. ي.. ي!» عند هجمتي الرابعة بكل قوتي انكسر الباب الحديدي وارتمى وسط قاعة الممرضات. صبيتان جميلتان. كراس من الخيزران تتطاير هنا وهناك ومعها أزهار اصطناعية من مزهريات زرقاء. إحدى الممرضتين الحسناوين كانت جالسة تتزين وتقلب بالملقط رموش عينيها بكل هدوء وتفنن. مؤكد أنها لم تكن قد وعت بعد ما حدث. الثانية ركضت هاربة إلى وراء إحدى الكنبات. عيناها الجميلتان جاحظتان الآن كجمرتين: مدت نحوي إصبعاً مرتعشة تغرزها في وجهي «عـ... عـ.. عـ..ـفريت!» الممرضة الثانية نهضت فجأة وراحت ترسم شارة الصليب على كل مكان تطاله أصابعها. بسم الأب... صرخت: إلى البراد. ارجع إلى البراد!! صدرها ناهد متوثب كنهود بنات جويا. لهجتها جبلية كسروانية تماماً «شباك كعمي. حدا بيموت وبعدين بيئوم هايك وبيفزع المدموزيلات؟ الزلمي بيموت مرة واحدة، وخلاص!».
دارت معركة. الممرضتان تريدان إرجاعي بالقوة إلى براد الدولة. كنت أقاوم بضراوة رغم سني الخامسة والستين. كان خصمي الأساسي الممرضة سلمى، الجبلية العملاقة، المكتنزة عضلاً وقوة. ساقاها كساقي حصان. مرة واحدة كاد اشتباكي بها يرخي عزيمتي، لكنها معركة حياة أو موت. تغلبت عليهما. أصبتهما برضوض. سالت الدماء من جميع أنحاء جسمي. في المرآة رأيت أظافر الفتاتين في كل مكان من وجهي. جانيت، النحيفة، بنت المدينة عادت وجلست إلى المرآة تكمل زينتها: تكتحل بكل دقة، ثم تنظر إلى ساعة يدها بين حين وآخر، وقالت: ـ يا لك من حمقاء يا سلمى. هل نسيت «الموت العيادي»؟ يمكن أن يموت الشخص ويتوقف قلبه تماماً نصف ساعة مثلاً، ثم يعود إلى الحياة...
تليفون إلى رئيس الأطباء الدكتور فؤاد جاء مع كل أطباء المستشفى. دهشة. صيحات. وشوشات. كلمات أجنبية لا أول لها ولا آخر. ثم طلبوا إليّ أن أتخذ جميع الأوضاع الممكنة. قلبوني هكذا ثم هكذا أكثر من عشرين مرة ثم جاء وقت التصوير. صوروني. ثم صوروني. ثم صوروني. ثم هنأوني. ـ طيب يا جماعة أعطوني ثيابي وورقة نفوسي ومصرياتي واتركوني أذهب في حال سبيلي. ـ متأسفون. أولادك أخذوا كل شيء. كان المفترض أن يأتوا هذا الصباح لأخذ جثتك. لم يأتوا. وكل أوراقك أصبحت الآن عند معالي وزير الداخلية، معاملاتك كلها انتهت. أنت الآن مسجل بصفتك ميتاً. توفيت أول البارحة في الساعة كذا وكذا بالضبط.
مشكلتي معقدة. يجب أن أذهب إلى عيون المرج لتقديم طلب للحصول على تذكرة بدلاً من ضائع.
أخيراً تلطف الدكتور فؤاد. مذكرة بحادثتي. مداعبة لخد جانيت الحسناء. حصل لي من الدائرة الحكومية المختصة على بطاقة سجل عليها «الحاج كذا كذا... مواطن لبناني من جنسية قيد الدرس...» مع إمضاءات وأختام زرقاء وبنفسجية كثيرة يزيد عددها على عدد الوشوم الموجودة على زنود الغجريات وأكتافهن.
لا قرش واحداً معي. كيف أتحرك؟ خرجت من المستشفى بعد الغروب بقليل لابساً كفني الأبيض. انتهى أذان المغرب في جامع الخضر. جلست. خارج جدار مستشفى الكرنتينا رأسي يدور كحجر الطاحون. فجأة سيارة توقفت قربي: يا حمار! يا راعي الزفت! لماذا جالس هكذا كهارون الرشيد، ووقت الذبح سوف ينتهي؟! سأخسر ألوف الليرات! بقي عشرون رأساً بدون ذبح. شتائم متبادلة. ثم تفاهم. في النهاية تنبيه وتعهد من تاجر الغنم: أشرف جيداً على ذبحها. افتح عينيك جيداً احذر من أن يبدلوا لك رأساً برأس، واحرص على أن يطبعوا على ألية كل خروف اسم بلدية بيروت الممتازة، ولك مني عند انتهاء عملك 25 ليرة لبنانية. ثم صرت عبر شوارع المدينة الكبيرة قاصداً سوق الدلالة والملابس العتيقة، وبعد ذلك إلى كاراج الجنوب، أكنس بذيول كفني غبار المدينة وتطردني كتل الباطون والحديد والزجاج نحو بيادر قريتي، روابينا الخضراء وأشجار السرو الشامخة الخمس الخضراء الغامقة، التي تحرس عصافيرنا الملونة.
ـ هذا حاج باكستاني من الذين يمرون في لبنان للشحاذة.
ـ لولا الغرباء لكنا واللَّه يا عمي بألف خير في هذا البلد.
ـ هذا راهب إنكليكاني مصيف بكير ـ هذا منجم مغربي.
لكنني لم أكن مع أولئك المارة. كنت هناك في قريتنا. الوقت غروب. حماري يحمل سكة الفلاحة، وخرج البذار الفارغ على ظهري، أسوق بالمساس الثورين الأسودين المتعبين، صاعداً معهما طرق الضيعة إلى البيت، وكل روائح البر وعطر التراب الطيب والعرق يفوح من شروالي وقميصي وبسطاري. كل هذا تلاشى فجأة وغاب حين رأيت طائرة تجتاز كوميض البرق سماء بيروت، مددت رأسي إلى الشمس وصحت في داخل قلبي: علي، حسين، زينب، فاطمة أين أنتم؟ لا جواب. لجة سوداء. وشوك الغربة. وأجر ورائي كفني. وفجأة أحسست بأنني أخذت أحب هذا الكفن. رابطة خفية ذكرتني بفاطمة أم أولادي. كيف سأخلعه الآن وأستبدل به ملابسي الفلاحية العادية؟
ـ كيف أنت الآن يا فاطمة؟ ـ أنا رماد ضائع يا أبو علي. وقليل من سواد الدخان على الصخور هنا وهناك. حياتي أكلتها نار سريعة. ولكن أنتم، أنتم، ماذا ستفعلون. ـ نعم. ماذا سنفعل؟