كتاب " مواطنون من جنسية قيد الدرس " ، تأليف محمد عيتاني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب مواطنون من جنسية قيد الدرس
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

مواطنون من جنسية قيد الدرس
حضرة القائمقام، سعادة، معالي، دولة، فخامة، إلخ.
يتشرف فلان الفلاني بعرض ما يلي: نحن الفلاحين حين نغرس أغراساً من الشجر فإننا نرعاها صيفاً وشتاءً، فإذا اشتدت عليها ليالي الثلج والصقيع نزعنا الأغطية عن أجسامنا وغطينا بها صغار النبات، لنقوم برعاية ما وضعته الحياة في عهدتنا. وإذا ربينا بقرة أو خروفاً أو حتى كلباً، فنحن نوفر لها كلها المأوى والقوت، ونضمن لها خصوصاً الحماية من الذئاب والضباع. وقد حدث لقريتنا ومنطقتنا ما خلاصته كذا وكذا، ولي شخصياً ما خلاصته كذا وكذا، فإذا بي أعتبر ميتاً في هذه الدولة الجليلة. ولما كان منزلي قد تحوّل إلى أنقاض ورماد، وكنت مضطراً للعمل في أية قرية أو بلدة غير قريتي التي لم تعد موجودة، فالمطلوب أن تُعاد لي تذكرة هويتي، أو تحديد جنسيتي التي ما تزال، في دوائركم، كما يبدو، قيد الدرس، وتفضلوا حضرة كذا وكذا إلخ.. التوقيع في كذا من شهر كذا من عام ألف وتسعمئة وكذا وكذا.
• هنا قال لي مسعود أفندي مرتجف الشفتين: الظاهر الأخ «خوش بوش» مع الجماعة الذين فوق لكي تخاطبهم بهذه اللهجة. منذ شهر هدمت دبابات العدو منزلاً لأحد أهالي قرية مجاورة، فجاء وطلب إليّ كتابة عرضحال إلى حضرة القائمقام وجناب الضابط. فكتبت. الرجل لا أعرف ماذا فعلوا به. أما أنا فقد أقاموا لي، أولاً، حفلة تكريم في المخفر، ثم أخذوني صباح اليوم التالي إلى حديقة القائمقام حيث ربطوني بالنير مع بقرة سوداء مرقطة ببقع بيضاء، اسمها «صبحا» وفلحوا علينا طول النهار حتى كدت أموت من الإعياء. والآن اسمح لي بإعادة كتابة هذا العرضحال بيدي الشمالية لأموّه خطي. أرجوك! تركت الرجل يفعل ما يشاء. ونقدته أجره. وعدت أهيم في طرقات الريف ساعياً نحو خرائب قريتنا. وأخذت تتجلى في ذهني عدة أفكار بعد ما قاسيته من محن، وقلت في نفسي وأنا أسير في طريق الشمس الحمراء: بدلاً من هذا العرضحال سأقدم طلباً بأربعة أسطر فقط مع التقارير الطبية اللازمة لاستعادة هويتي، لكنني كنت كلما وصلت إلى مفترق الطرق ذاك، القائم بين مرتفعات العرقوب حيث يقيم المقاتلون، ومزارع البكوات، حيث يمكن العمل عندهم وكسب شيء من المال، أقف طويلاً وأفكِّر: هل أمضي في هذه الطريق، أم تلك؟ وكان وقوفي يطول، حتى أثرت يوماً شبهات رجال الدرك من الفرسان الذين انهال عليّ أحدهم مرة بسوط على وجهي وظهري وهو يسألني: ماذا يا حيوان؟ هل تقف هكذا لتفكر كيف خلق اللَّه العالم؟..
الوقت غروب. أخرجت العرضحال الرسمي من جيبي. رحت أطرح مجدداً السؤال تلو السؤال على نفسي. وخُيِّل إليّ، في وهج الأفق الأحمر، أن فاطمة زوجتي، عادت تقف إلى جانبي لأنني كنت أشم رائحة زهر البرتقال من إكليلها الذي توجت به شعرها ليلة عرسنا، وولدي حسين أيضاً، كان يسير بين ضباب المساء الخفيف، حاملاً رشاشاً كبيراً، مشيراً إليّ بإصبعه الدقيقة المتينة كرأس حربة إلى طريق المرتفعات. لكنني ما زلت متردداً، أفكِّر أي طريق أسلك. وعليكم أنتم أن تساعدوني لنسير معاً في طريق واحدة.
وأخيراً لم أشعر إلا وأنا أُمزق العرضحال قطعة قطعة، وألقي بها في الهواء الذي كان يهب على روابي قريتنا من كل مكان، ولا سيما من ناحية الجبال العالية الخضراء، بعد حين راحت فراشات بيضاء وزرقاء تحلِّق وترفرف حولي من كل ناحية، ووراءها شمس كبيرة، مستديرة، حمراء، أشبه بوردة كونية، عرضها السماوات والأرض.