كتاب " مواطنون من جنسية قيد الدرس " ، تأليف محمد عيتاني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب مواطنون من جنسية قيد الدرس
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

مواطنون من جنسية قيد الدرس
في سوق الملابس العتيقة دخلت أحد المحلات، خلعت كفني في زاوية وراء ستارة، واشتريت شروالاً عتيقاً أسود، وملابس داخلية رقيقة، وقميصاً كاكي. بقي معي من ثروتي خمس ليرات تكفيني للسفر إلى قريتنا.
طنين طنين عذب وملتاع هذه المرة. كان صوت فاطمة في أذني، إلى أعماق روحي. ثم جعلت تسير معي: لا يصح إلاَّ الصحيح يا أبو علي. والآن اسمح بأن أعود إلى ذرات الهواء، وبراعم الغصون الجديدة، وسواد الجدران المحيطة ببيتنا. كانت في تألق جمالها مثلها ليلة عرسنا، حول جبينها إكليل من زهر الليمون العطر. حاولت أن أقبلها، التقت شفتاي بسلة طعام لأحد الركاب.
* * *
سائق البوسطة: يا جماعة هل أخطأنا الطريق. هذه هي المرة «الألف وألفين» التي آتي بها إلى هذه القرية. ولكن أين القرية؟ أحد الفلاحين: كيف تخطئ الطريق. ها هي أشجار السرو الخمس العالية فوق تلة القرية، وهذه عرائش بيت بوماضي محروقة، وتلك هي البركة التي نشرب منها نحن والبقر، وقد فجرتها القنابل. هذا مكان قريتنا يا أبو محسن. ـ طيب، ولكن القرية نفسها أين هي؟
نزلت من البوسطة، وتركت ركابها يبحثون عن قريتهم، لأنني رأيت عن بعد، تحت وهج شمس الأصيل، ما تأكدت من أنه بقايا منزلنا، قطع من الجدران الزرقاء، والحمراء، وتخاريم حاجز الشرفة. وأصص الأزهار محطمة متناثرة في كل مكان، وبقايا محروقة من فرشنا وحصرنا وكراسي بيتنا.
وأيدي ورؤوس بعض جيراننا التي أسيء دفنها، فانكشفت بعد ذوبان الثلوج كما يبدو، ومن عين إحدى الجماجم الفارغة نبتت زهرة «دويك الجبل» بنفسجية متوهجة كعين حسناء. ها هو منزلي، بكامله، لكن القنابل والرصاص وجنازير الدبابات قد قطعت أوصاله، ومزقته، وسوته بالأرض. وتوقفت لأقرأ هذه العبارة المكتوبة، على الجدار الرمادي لغرفة الجلوس الشتوية: «الليلة غلبت والدي في المصارعة ـ حسين 25ـ9ـ عام كذا».
ابتسمت من أعماقي رغم أن قلبي لم يعد يحتمل أي شعور غير النقمة والغضب، هذا بيتي الصغير تحطمه، مثل علبة من الكرتون، أقدام همجية، وأين الذين يجب أن يدافعوا عنا؟ لكن سؤالاً آخر صدم رأسي: أين هم أولادي؟ ونسيت كل ذلك حين عاد إليّ شيء من صفاء الذهن ونظرت حولي: كان الدمار يشمل كل شيء، لم يبقَ تقريباً بيت واحد في القرية قائماً على ركائزه. المشهد كجوانب جبل بركاني، توقف مؤقتاً عن الهيجان، ولكن ما زالت سحب الدخان تتصاعد منه إلى أعالي السماء.
جميع نواحي القرية جلت فيها ذهاباً وإياباً، صعوداً ونزولاً، حتى أوشكت الشمس على المغيب، فلم أرَ أحداً من ناسها الأحياء سوى الداية العجوز أم عقيل، وهي داية القرية، وقد تجاوزت المرأة الثمانين، هزيلة عجفاء، ذات عينين شهلاوين حافظتا رغم كر السنين الطويلة، على تألق وصفاء عجيبين:
كانت أم عقيل تجلس على حجر محروق فوق أحد البيادر وقد أرخت الحبل لعنزتها السوداء الصغيرة، وحين رأتني المرأة الهرمة بادرتني بالتحية والسلام وسألتها: أين أولادي يا خالتي أم عقيل؟ ـ الجميع هربوا ما عدا ابنك الأصغر حسين ـ وأين هو حسين الآن؟ لزمت المرأة الصمت. وكانت حمرة الشفق الدموي تنعكس على تجاعيد وجهها الدهرية. جلست قربها، ورحت أحدق إلى عينيها. وكررت السؤال: أين هو حسين ولدي الأصغر يا خالتي أم عقيل؟ واتضح لي تماماً أن عيني أم عقيل لم تكفا عن البكاء منذ أسابيع فعلى يديها وُلِدَ أكثر أهل القرية التي قمطتهم وهم ولدان رضعاء في لحظاتهم الأولى، ثم رأت جثثهم تتناثر في الجو حين أصبحوا رجالاً. هالات سوداء وزرقاء حول عينيها. شيء كالوحل العكر يشوب نقاء إنسانيهما الأشهلين. ركزت أم عقيل عينيها في عيني وقالت بلهجة آلية، لا تشوبها أية نبرة حزن:
ـ ولدك حسين يرقد في حضن أمه فاطمة أم علي هناك في مقبرة القرية. انفتحت في أعماقي بئر سوداء من الحزن المريع والغضب والنقمة والصديد. ومع ذلك فلست أدري كيف استطعت أن أسأل أم عقيل بلهجتها نفسها: وكيف مات؟ ـ كما مات الرجال الذين حملوا البنادق. ودقت على صدرها بلوعة: وقالت: ولكن يا حسرتاه؟ ماذا تفعل البنادق أمام الدبابات الكبيرة والطائرات وألوف الجنود؟