كتاب " مواطنون من جنسية قيد الدرس " ، تأليف محمد عيتاني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب مواطنون من جنسية قيد الدرس
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

مواطنون من جنسية قيد الدرس
ـ يمينك يا الشيخ!
يا حرام هذا الشيخ. إنه يقع في القناة ويأخذ في السباحة. وأنت تعرف يا ابن خالتي. فمشايخ التربة بين القبور التي زرتها مئة ألف مرة لا تستطيع السباحة، فما بالك بـ «الحامولة» ذات المياه الجارفة الهدارة، اللهم عافينا، بعد هطل المطر الشديد طوال الليل في كوانين. يسقط الأستاذ المسكين في سيل الماء. لكنه كان يجد دائماً بعض أولاد الحلال الذين كانوا ينجحون في القبض عليه قبل البحر بقليل، بعد البحر بقليل، ويعودون به إلى بر اللَّه الواسع، أحياناً بجبة، وأحياناً بدون «لفة» ولا جبة، وربما عاد ناسياً نصف القرآن الكريم، وقصيدة «بردة البوصيري» وسائر «عدة الشغل» المشيخية.
أنت أعز من ابني وسأقول لك الحقيقة. الحقيقة أن أهل محلتنا لم يكونوا كلهم أوادم لكن الذين كانوا يعملونها يعتبرون أقلية: لا يبلغ عددهم نصف أهل المحلة تقريباً أو ثلاثة أرباعهم والباقون ملائكة أو كالملائكة تقى وورعاً ونظافة كف. خذ من عمك أبو عمر يا ابني.
والآن قف قليلاً. أريد أن «أفت» قليلاً من العجين والجيزان في البحر للسمك. فعمل النهار سيبدأ بعد قليل. لا تؤاخذني. تأخر قليلاً، اعمل معروفاً مع عمك أبو عمر.
والتفت الصياد المسن تحت عرقيته الصوف البنية ـ المسودة وقال مشيراً بيده إلى الشرق على بعد زهاء عشرين أو ثلاثين متراً:
ـ هل ترى هذه المغارة. الآن، بعد قليل أحكي لك قصتها. منذ زمن طويل وأنا أحب أن أحكيها لأحد الناس. وأنا أعرفك شخص خلوق لا يطلع منك سوى الشيء الطيب. واحدة بواحدة. أروي لك سري، لأنني سأنفق إن لم أحكِ لأحد، وأنت احفظه ولا تجعل «صوص ابن يوم» يعرفه. اتفقنا.
ـ اتفقنا يا بو عمر إن شاء اللَّه.
وبدأ شغل الصياد ودارت يده اليمنى: فت. فت. فت. بش. بش. بفم. بفم. بعأ. بعأ.
الكلام لراوي القصة: بدأ الصياد أبو عمر، وهو يعتمر قلنسوته السوداء البنية، عريض المنكبين، ذو شروال أسود ممزق مرقع من جميع جوانبه ربما ما عدا مكان «الفقيشة»، وقميصه رمادي عتيق مقلم بأسود، محني القامة قليلاً وهو في الخمسين أو الخامسة والخمسين من عمره، أما عيناه... احم.. فكانتا كجميع عيون أهل رأس بيروت... ولو لم يكن بحرياً لكان «أعمص برنجي» كجميع أهل رأس بيروت كما تقول زوجته بنت خالة أبي الحاجة أم عمر ست النساء في ساعات صفائها. وكانوا يسمونها كذلك لجمالها الفتان. ولكن ليس هذا هو الموضوع الآن. وأنا حين أقول إن جميع أهل رأس بيروت عمصان فإنني أكرمهم في الواقع. لم يكونوا يريدون أن يحاربوا إلى جانب تركيا فحلب أكثرهم حليب تين سوادي في عينيه لكي يضعف بصره فلا يؤخذون إلى الحرب وهكذا كان تقريباً، إلا في نهاية «الدق» حين انحشرت الدولة العلية. ولعل هناك سبباً ثانياً وثالثاً لعمصنة أهل رأس بيروت: غبار وبر الصبير حين تهب ريح السموم في الربيع، أو كثرة قراءتهم قصص المعراج والمولد النبوي الشريف وقصة الحمال والبنات في ضوء الكاز الخافت قصة ولا أجمل سمعتها مرة فأصبحت كحصان فرعون الذي أخذ بلعة. تصور كم هي جميلة عتال مثلي ومثلك من عامة خلق اللَّه.
ينام «عن جد» مع أغنى وأجمل بنات البلد.. أين صارت هذه قبل اليوم؟.. المهم... هل ترى هذه المغارة قربنا.
ـ أراها يا عم.
ـ وهل تعرف اسمها.
ـ أظن إنها مغارة «البقبيقة».
ـ يا عيب الشوم. دش نيح يا أستاذ. هذه مغارة البحصاص وهل تعرف ما معنى مغارة البحصاص.
قلت لأخفف تدخلي في حديث الصياد أبو عمر وأستمع إلى حديثه كما هو:
ـ أنت سيد هذا البحر يا عم أبو عمر. أخبرني كل شيء. فأنا في هذه المسائل «غشيم كار». تفضل وأتحفني.