يعالج هذا الكتاب موضوع الحداثة في النص الشعري عبر خمسة فصول، تطرق فيها المؤلف لحداثة النص المتمثلة بحداثة الرؤيا، وكذلك إلى الشاعر الحديث ورموزه الشخصية، إضافة إلى حدود البيت وفضاء التدوير، ومن ثم تناول المؤلف الشعر خارج النظم وداخل اللغة، ليتوقف في الفصل ا
أنت هنا
قراءة كتاب في حداثة النص الشعري
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 3
إن الرؤيا، في الشعر، هي نفاذ الشاعر ببصيرة ثاقبة:
« إلى ما تخبئه المرئيات وراءها من معان وأشكال فيقتنصها ويكشف نقاب الحس عنها، وبذلك يفتح عيوننا على ما في الأشياء المرئية من روعة وفتنة »(7).
وهي تجسد، هنا، معنى حلمياً، ودلالة قلبية، على العكس من كلمة (رؤية) التي تعني، في معظم الأحيان، فعلاً جسدياً محضاً: لا يلامس غير السطح من المرئيات، ولا يصل إلى مكنونها الداخلي، وما في صمتها البارد من دلالة وتوحش.
لذلك فإن شعر الرؤيا هو ذلك الضرب من الكلام، كما يعبر هيدجر، الذي « يرفع النقاب من البداية عن كل شيء، عن كل ما نتناوله ونتداوله بعد ذلك في لغتنا اليومية الجارية»(8). إنه يزيدنا معرفة لا بالأشياء المحيطة بنا فقط، بل بأنفسنا وما تشتمل عليه من قوة، وأسى إنساني، وتلذذ بالجمال والعدالة. إن الشعر يؤكد، في كل لحظة، امتيازه القاسي، وقدرته الكاشفة التي تتجلى في رؤية ما يخفيه عنا:
« الروتين والعادة، والكشف عن الوجه الخفي للكون، ونزع الحجاب عن العلاقات والمراسلات السرية »(9).
إن «البيريس» يقدم، هنا، ثلاث مراحل من مهمة تتنامى عبرها الرؤيا وتصل إلى ذروتها الإبداعية؛ فالرؤيا والكشف واستعمال اللغة هي العناصر الحاسمة في تشكيل رؤيا الشاعر، ومنحها هيأتها الحسية الملموسة.
الشاعر، في مفهوم الرؤيا الحديثة، ليس وصّافاً، أو مراقباً، أو معلقاً على ما يراه. إن هؤلاء جميعاً، يقفون على مبعدة من شهوة العالم أو بهجته المباشرة. في منأى عن رذاذ الدم والأنين الذي يتطاير من قلبه المهشم، وعينيه المطفأتين، فهم (يلمحون) العالم (ويبصرونه). والقصيدة لديهم، في هذه الحالة، تسجيل لفعل المشاهدة، وصف وجداني، لما يبدو عليه العالم، ظاهرياً، من رصانة أو تصدع.
إن مساحة ما، مضطربة وباردة، تظل تفصلهم عن نبض العالم وناره، عن أتون التجربة الحقة، التي هي، بالنسبة للمبدع، المرور في « طوايا الحالة الإنسانية الجائشة التي تلهب فيه اللذة أو ألألم، أو الغضب(10) لا لينشغل بها أو ينغمر فيها فحسب، بل ليتخطى حدودها الفيزيائية إلى مدى رؤيوي، هو مدارج فسيحة لا حدود لها ودخول في مجاهيل إنسانية »(11).
الرؤيا الشعرية، إذن، وقبل كل شيء، رديف الحلم، والامتزاج بالكون، والتوحد بأشيائه. إنها تغير « في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها »(12) وهذا النظام المختلف، في النظر إلى الأشياء، يعمق صلة الشاعر بتجربته، ويرصّن رابطته بالكون، والحياة، والأشياء، فيجعل من هذه الصلة، لا نقاط تماس مجردة، بل انصهاراً حاراً، واندماجاً في تيار، جارف، شديد الفرادة.
ولا يمكن لصلة الشاعر بعالمه أن تكون على هذا المستوى إلا إذا كان مسكوناً برؤيا حقة، تتيح له تمثل العالم، والانغمار فيه، والتفاعل معه، تفاعلاً داخلياً وهّاجاً.
في أحيان كثيرة، تستخدم كلمة (الرؤيا) استخداماً مرادفاً للحدس والسحر، والتوق الصوفي، وهو استخدام كان يضعها في الطرف المقابل لما تؤديه كلمة (الرؤية). يميز ماجد فخري، مثلاً، بين الكلمتين، فيرى أن الشعر « الذي يقتصر على الوصف التصويري للطبيعة، أو على سرد الأحداث والماجريات يكاد لا يعدو نطاق الرؤية »(13) ويرى أن شعراً كهذا، هو أحط أنواع الشعر لأنه يقتصر « على استعراض للجزئيات المرئية، وهي مبذولة لكل ذي باصرة، فأي فضل للشاعر في التنبيه إليها؟ »(14).
أما غالي شكري فقد ميّز بين كلمتي (الرؤية) و (الرؤيا) حين قصر الكلمة الأولى على الرؤية الفكرية للواقع والفن، التي تمنح « الأولوية في عناصر التجربة الشعرية للعنصر الاجتماعي والدلالة السياسية »(15) وهو يرى، أيضاً، « أن الرؤية الفكرية في حد ذاتها أحد عناصر الرؤيا الحديثة في الشعر »(16). أما البصيرة الشعرية، أو الرؤيا الحديثة في الشعر فهي تلك الرؤيا التي تستمد ملامحها:
« من جماع التجربة الإنسانية التي يعيشها الشاعر في عالمنا المعاصر بتكوينه الثقافي والسيكولوجي والاجتماعي، وخبراته الجمالية في الخلق والتذوق، ومعدل تجاوبه أو رفضه للمجتمع، وطبيعة العلاقة بينه وبين أسرار هذا الكون »(17).
إن كلمة (رؤيا)، على أية حال، شديدة الروغان، عصية على التحديد، وواسعة سعة عجيبة، تصل، في أحيان كثيرة، حدّ التناقض. فهي تكتظ بالغموض، وظلال المعنى التي تولّد، على الدوم، عدداً من المفارقات ضمن السياقات التي تستخدم فيها(18). لقد وصل تنوع معناها حدّ أن (فراي) يستعملها، أحياناً، مرادفاً للأدب ذاته، أو المكوّن الموضوعي له على الأقل. فالأدب، بالنسبة لفراي، « ليس تقليداً للطبيعة، وليس له مرجعية واقعية، بل هو، في الحقيقة، حلم الإنسان، والتصور الخيالي لرغباته ومخاوفه »(19).


