أنت هنا

قراءة كتاب في حداثة النص الشعري

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
في حداثة النص الشعري

في حداثة النص الشعري

يعالج هذا الكتاب موضوع الحداثة في النص الشعري عبر خمسة فصول، تطرق فيها المؤلف لحداثة النص المتمثلة بحداثة الرؤيا، وكذلك إلى الشاعر الحديث ورموزه الشخصية، إضافة إلى حدود البيت وفضاء التدوير، ومن ثم تناول المؤلف الشعر خارج النظم وداخل اللغة، ليتوقف في الفصل ا

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 10
بعيداً عن طاقة الشعر وسحره، يظل الموضوع الكبير، أو المهم، أو الفخم، موضوعاً غُفْلاً، ومادة خاماً. وحين يعوّل الشاعر، فقط، على ما يمتلكه الموضوع من قيمة، في حد ذاته، فإنه يجازف، ربما، بمصير قصيدته تماماً. إن الموضوع الواسع، الكبير قد يقود إلى عراء التجريد، وقد يؤدي، كذلك، إلى ظلمة التعميم وبرودته.
 
إن كلمات شديدة الأهمية مثل: الشعب، الحياة، الوطن، الحب، الشجاعة، والموت، البطولة، الخوف، كلمات تكتظ بالقيم والدلالات الكبرى. وهي موضوعات غاية في النبل، والإثارة، في حدّ ذاتها. لكنها، عن طريق الرؤيا الفذة، ستكتسب ثراء مضافاً ودفئاًَ شعرياً.
 
فالرؤيا الشعرية قادرة، وحدها، على اختزال هذه الموضوعات الكبيرة، واستبعاد الكثير من عموميتها، أو تجريديتها التي قد تجافي الشعر ولغته الحسية، الخاطفة، المختزلة. وهي التي تستطيع حذف ما يثقل هذه الموضوعات، أحياناً، من تفاصيل، واستطرادات، ودلالات عامة، للوصول بالموضوع إلى مستوى شخصيّ، حميم، غنيّ بالمغزى والجمال.
 
والشعر يمكنه، عن طريق الرؤيا المتأججة، أن يصل بالعام، الفائض، المتسع إلى حرارة الجزئيّ، والفرديّ، والخاص. ويستطيع، كذلك، أن يملأ ما هو شخصيّ وفرديّ بفيض من الدلالة الشاملة التي تغمر الإنسان في عموميته وإطلاقه وكليته.
 
إن النقطة التي يتماس فيها الشاعر مع محنة الإنسان، ليست نقطة خارجية ناتئة على السطح، بل هي، في حقيقتها، تداخل محتدم ينضح بالدم، والحرارة، والشفافية.
 
والموضوع، في تأثيره على الآخرين، لا يتعكز على نبل القضية وعظمتها. بل يستعين بما للشعر من سحر، وتوتر، وجمال طاغ. أي أن القصيدة، حين تنهض للتعبير عن موضوع ما، فإنها تزيده ثراء، وتضيف إلى نبله بُعداً إضافياً عن طريق تجسيده تجسيداً حسياً، فردياً، خاصاً. لذلك يظل صحيحاً القول أن ما يمنح التعبير عن قضية ما شعريته، أن الارتباط لا يتم بين « الإنسان الذي في الشاعر، والقضية التي اختارها، وإنما بين الشاعر الذي في الإنسان والقضية التي استلهمها »(39).
 
تحتاج الموضوعات الكبيرة، كي تكون مؤثرة، ومحسوسة، أن يختار الشاعر نقاط اندماجه بها اختياراً بارعاً: كيف يستطيع أن ينشئ، من هذه الموضوعات الغنية بالتجريد والذهنية، عملاً شعرياً، يجيش بالحركة الحسية، والإيمان الفردي العنيف؟ كيف يمكنه أن يعبر عن جزء يسير، لكنه شامل ومركب، من موضوع بهذه السعة والعمومية؟ وأخيراً كيف يتسنى له أن يدخل القارئ في غمرة إحساس جارف بحيوية موضوع ما: بنبله الصافي، وشموله، وجسامته الهائلة، رغم أنه، على مستوى الحقيقة، موضوع جزئي، محدود؟
 
لا شك أن الكثير من شعرنا الحديث اعتاد أن يستجيب، استجابة حارة، للموضوعات الجسيمة، وهذا شيء جميل حقاً. غير أن المرء يحس، أحياناً، أن معظم هذا الشعر، ربما، ما كان له أن يٌكتب لولا هذه الاستثارة المهيجة، وهذا اللكز المباشر على الخاصرة.
 
إن ذلك يعني حتماً، أن القصيدة العربية الحديثة ما تزال، في بعض تقاليدها، امتداداً لبعض تقاليد القصيدة القديمة فيما يتعلق بالنظر إلى العالم، موضوعات وأشياء وانفعالات. فهذه القصيدة، شأن القصيدة القديمة، لا تستطيع، دائماً، أن تكون خلقاً جديداً، أو فعالية اقتحامية، مبادرة. كما أنها لا تسعى، بشراسة، إلى أن تتحول إلى نار وحشية تفاجئ الغايات، والطرق، والذاكرة. بل هي ما تزال ردة فعل لواقع، أو حدث. وبدل أن تكون سؤالاً مقلقاً، جسوراً فإنها ما تزال، في معظمها، إجابة يستدعيها سؤال مطروح.
 
الشعر، إذن، لا بد أن يكون رؤيا مشتعلة يقظة: تلتهم الواقع، وتغور وراء قشرته الظاهرية، اللامعة، بحثاً عن الجوهر، الحيّ، الراجف للحياة والإنسان والوجود. ولا شك أن هذه الرؤيا المتحركة لا تستلم للعادة، ولا يخدعها سطح الحياة البراني المألوف. بل تظل مأخوذة بالخفيّ، والكامن من معناها، ودلالتها المدهشة، وهذا هو امتياز الشعر، الذي لم يبالغ سبندر في اعتباره حداً للكاتب الخلاق الذي يمتلك « أقصى قدرة على رؤية الغريب الشيّق من وراء العادي والمألوف »(40) ويرى سبندر أيضاً:
 
« أنّ كتاب الطبقة الثانية وحدهم هم الذين يحتاجون لكي يكتبوا، إلى مؤثر خارجيّ غريب أو جديد أو شعري في ذاته »(41).
 
إن الشاعر الذي لا يستثار إلا بحدث خارجي ولا يوقظه إلا واقع صادم، أو واقعة شديدة الوطأة ما هو إلا شاعر ذو موهبة خاملة. لذلك فإنّ موهبة كهذه لا يمكنها العمل إلا بتعاطي المنبهات، أو تلقّي الصدمات الحسية.
 
وشعر الرؤيا هو ذلك الشعر الذي يقتنص نبض الأشياء، وسرها الغامض، الخفي رغم ضجيج العالم وفوضاه القاسية. وهو الذي يرى، وراء سطح الحياة وطمأنينتها الخادعة، موضوعات لا حصر لها، تتفجر بالقلق، والنشوة والنضارة.
 
لذلك كله، فإن نار الرؤيا وجمرها الخالد قادران، دائماً، على رؤية الجوهري والشامل في ما هو عاديّ، وعابر، ويوميّ من أشياء الحياة، وتفاصيلها الكثيرة. وهما اللذان يجعلان من الموضوعات الصغيرة العابرة تجسيداً شعرياً مدهشاً لانشغالات الإنسان الحديث، وحلمه، ومخاوفه.
 
حداثة الإحساس بالماضي:
 
ليس الماضي، بالنسبة للشاعر الحديث، زمناً منقضياً، أو ذكرى ميتة لا يمكن استعادتها، أو بعث الحياة في رمادها المتجهم. بل هو، على العكس من ذلك تماماً، حيوات متفردة، وطاقة روحية جياشة، وهو، أيضاً، زمن يكتظ بالدلالة، والغنى والتوتر.

الصفحات