يعالج هذا الكتاب موضوع الحداثة في النص الشعري عبر خمسة فصول، تطرق فيها المؤلف لحداثة النص المتمثلة بحداثة الرؤيا، وكذلك إلى الشاعر الحديث ورموزه الشخصية، إضافة إلى حدود البيت وفضاء التدوير، ومن ثم تناول المؤلف الشعر خارج النظم وداخل اللغة، ليتوقف في الفصل ا
أنت هنا
قراءة كتاب في حداثة النص الشعري
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
وكما أشرنا، قبل قليل، فإن الرؤيا ليست موقفاً محضاً، بل هي الموقف وقد تشظّى داخل النص، وتغلغل في أنسجته وخلاياه، وصار، أخيراً، جزءاً من سحره وعافيته وتجسّده الماديّ. إنها ذلك المزيج المشعّ، المعجون بلغة الشاعر، وفكره، وحنينه. وهي، كذلك، مصدر فاعلية العمل الشعري وسحره؛ فالنصّ، كما يرى كولدمان(33)، لا يستمد « معناه وبنيته الدلالية» إلا من « رؤية العالم » التي يعبر عنها.
إن الرؤيا الشعرية التي يمكن نقلها، أو الحديث عنها نثراً، دون أن تفقد شيئاً من سحرها، وحيويتها ليست رؤيا شعرية مكتملة. بل شيء آخر: موقف ما تتجلى الأرجحية فيه للمنطق وصلابته، موقف أزيح عنه ماء الشعر وما فيه من سحر وجموح.
ووحدة الرؤيا والنص الشعري هي، في حقيقة الأمر، وجه آخر لذلك المزيج، الذي لا يقبل التجزئة بين شكل القصيدة، أي كيانها الحسيّ الملموس، وبين ما تشتمل عليه من دلالة تمثل الأساس لموقف الشاعر أو فكره. وهذا التوحد بين دلالة النص وشكله التعبيري، يمثل إحدى مقولات النقد الحديث. كما يمثل، في الوقت ذاته، محكاً لحداثة الشاعر، وتلاحم رؤياه.
لقد بات من المؤكد أن محاولة الفصل بين معنى القصيدة، أو دلالتها وبين شكل الأداء، محاولة لا طائل تحتها؛ فدلالة القصيدة، خارج كيانها التعبيري، وهم كامل. كما أن شكل النص الشعري، أو بناءه، إذا فصل عن شحنته المعنوية والنفسية، لا يعدو كونه ضجة مجردة.
يقول هارولد أوزبون:
« لا يظل شيء من شكل القصيدة ولا بنيتها العروضية ولا علاقاتها الإيقاعية، ولا أسلوبها الخاص بها عندما تفصل عما تحتويه من معنى »(34).
ثم يضيف، وهو يتحدث عن صلة اللغة بمعناها:
« فاللغة ليست لغة، بل أصوات، إلا إذا عبرت عن معنى. كذلك يعتبر المحتوى بدون الشكل استخلاصاً لشيء ليس له وجود ملموس، لأننا لو عبرنا عنه بلغة مختلفة لأصبح شيئاً مختلفا »(35).
والترابط بين الرؤيا وتجسيدها، أو الشكل ودلالته، يصل أحياناً، في الاتجاهات النقدية الحديثة، تخوماً متطرفة. فهي تذهب إلى حدّ اعتبارهما، لا عنصرين ملتحمين معاً في بنية واحدة، بل عنصراً واحداً ثري التكوين. إن كروتشه، مثلاً، يدعونا إلى إدراك أن « المضمون يُشَكَّل، وأن الشكل يُملأ، وأن الإحساس إحساس مُشَكَّل، وأن الشكل شكل يُحَسّ »(36). ولقد وصل التطرف بالشكلانيين الروس حده الأقصى؛ فهم في الفن، لا ينكرون الايدولوجيا أو يتنكرون للمحتوى بل يعتبرونهما، معاً، « مظهراً من مظاهر الشكل »(37). كما أن « حقائق المحتوى » كلها، كما يقول جرمونسكي، تصبح في الفن « ظواهر شكلية »(38).
لا شك أن هذه الخاصية، أعني وحدة الشكل ومضمونه، مظهر حاسم من مظاهر الحداثة الشعرية، كما أشرنا. هذه الحداثة التي كانت الرؤيا أكثر عناصرها بروزاً، وأشدها فاعلية. إن غياب الرؤيا، أو ضعفها لا يترك للشعر مجالاً حياً يفصح، من خلاله، عن تأثير شامل، أو صلة عميقة بالإنسان والعالم. بل يؤدي، بالشعر والشاعر معاً، إلى أن يكونا تابعين لحركة الحياة، ومتخلفين عن إدراك جوهرها.
وحين نتتبع هذا الأمر، فإننا نجد آثاره واضحة على حداثة القصيدة العربية اليوم؛ فمعظم الشعراء العرب، في هذه المرحلة لا يصدرون عن رؤيا عميقة، حادة. كما أن الشطر الأعظم من شعرنا العربي لا يرتبط، لذلك، بصلة حية بالعالم.
لقد انعكس ضعف الرؤيا أو تفككها في تلك الثنائية المؤذية: الشكل والمضمون التي جعلت من النص الشعري إناء، بارداً مهيّأً على الدوام لاستقبال محتوى ما: مضمون منفصل، أو فكرة جاهزة.
إن الكثير من شعرنا الحديث ليس شعراً حديثاً تماماً. فهو، رغم اعتماده الطريقة الحديثة، يكتب بحساسية تقليدية، وتصور شعري قاصر. إنّ لغته لا تمتّ إلى الحداثة، بصلة عميقة، ولا ترتبط أيضاً، برؤيا حديثة للشعر والعالم والإنسان. لغة تنفصل عما تريد التعبير عنه، وينخفض فيها نبض الخيال، وثراء التعبير بالصور. وليس هناك، على مستوى مضمونها الداخلي، ما يجعلها لغة تتجسد في المضمون، أو مضموناً يزدهر في اللغة.
مأزق الموضوع الكبير:
ويتجلى هذا الخلل، في رؤيا الشاعر الحديث، على مستوى آخر هو الموضوع الشعري نفسه، إن المتتبع لحركة القصيدة العربية لا بد أن يلاحظ ميل الشاعر للموضوعات الكبيرة، الفخمة، المجلجلة التي تطفح، بطبيعتها، بالتوتر، والحماسة والانفعال.
إن الموضوع، الواسع، الفخم الشائع يخفف، دون شك، من مكابدة الشاعر للوصول إلى قارئه، لكنه يتطلب منه جهداً هائلاً، للوصول إلى مستوى التميّز والفرادة. فالأرض، بين الشاعر وقرائه، محروثة عادةً بما تمتلكه هذه الموضوعات، في حد ذاتها، من مهابة، أو شيوع أو جلال. لذلك فإنّ القصيدة لا تعاني، كثيراً، في ملامسة القارئ وإثارة استجابته بيسر. وهي لا تأسر القارئ، في هذه الحالة، بما تتسلح به من رؤيا محلقة، بل تستعين عليه بما يحمله، هو نفسه، للموضوع من انحياز وجداني، أو أخلاقي، وما يثيره في الذاكرة والوجدان من ظلال وارتباطات تُقبِل من خارج النص.
وأهمية موضوع ما وجماله ينبثقان، لا من خارج القصيدة بل من داخلها: من ترتيب عناصرها، ومن تفاعل هذه العناصر، تفاعلاً خفياً خصباً، يمنح موضوع القصيدة نضارته. ويستمد منه، في الوقت نفسه، ثراء جمالياً وشكلياً شديد التأثير.