يعالج هذا الكتاب موضوع الحداثة في النص الشعري عبر خمسة فصول، تطرق فيها المؤلف لحداثة النص المتمثلة بحداثة الرؤيا، وكذلك إلى الشاعر الحديث ورموزه الشخصية، إضافة إلى حدود البيت وفضاء التدوير، ومن ثم تناول المؤلف الشعر خارج النظم وداخل اللغة، ليتوقف في الفصل ا
أنت هنا
قراءة كتاب في حداثة النص الشعري
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
وما يمنح الرؤيا الشعرية فتنتها وتأثيرا أنها لا تسير في اتجاه واحد، لا ترى من الجبل سفحه المواجه لنا فحسب، بل هي سعي دائم لرؤية الشيء ونقيضه. إن الكثير من شعرية هذه الرؤيا، وما فيها من كشف وفاعلية يكمن في غناها بالتعارض والشمول والقلق؛ فهي ليست موقفاً، مطمئناً، مستريحاً، لأجوبة جاهزة، بل توق وتساؤل دائمان، ومسعى في اتجاه أجوبة أشدّ إرباكاً.
إنّ الرؤيا الشعرية، حين ترى الواقع، لا تراه من منظور ثابت، بل تراه من زوايا متعددة، لتتمكن من اقتناص جوهره المتحرك الذي يتفجر بالقلق، وحالات النمو، لتراه في حركته وتردده، في يقينه وذعره. وهي لا تقف، من هذا الواقع، موقفاً واحداً، ولا تتصل به بقناعة نهائية؛ فهي ليست هجاءً مراً لهذا الواقع وتشفياً به، كما أنها ليست غناءً بريئاً له. فحين يحجب الموقف الأول ما في الواقع من حيوية ونبل كامنين، لا يتيح لنا الموقف الآخر أن نرى ما قد يتفجر تحت بنائه الظاهري من تصدع ونفاق.
والمتتبع لحركة الشعر العربي الحديث لا يجد حرجاً في القول أن لدينا، الآن، الكثير من القصائد الجيدة. غير أن ذلك لا يعني أننا نملك الكثير من الشعراء الجيدين. إن آفة القصيدة الحديثة، كما يبدو، تتجلى في هذا الكم الهائل من النماذج الشعرية التي يواجهها القارئ العربي، مقروءة ومسموعة، في كل مكان.
ولا بد من الاعتراف أن بين هذه القصائد عدداً غير قليل من القصائد الناضجة، غير أنها لا تسهم، دائماً، في تكوين بناء رؤيوي لكتّابها. ومع أن بعضها يشتمل على رؤى معينة إلا أنها تظل، رغم ذلك، رؤى مفردة، معزولة، تفتقر إلى خيط الدم الخفي الذي يربطها بتراث الشاعر الذي أنجزها، ويجعل منها خلية حية تندرج في سياق أشمل. بعبارة أخرى، إن قصائد كهذه لا تنجح، مجتمعة، في تحويل رؤيا كاتبها إلى نهر مترابط، يتنامى ويحتدم. أي أنها لا ترتفع إلى أن تكون جزءاً فاعلاً في نهر الرؤيا هذا، أو تنويعاً، بارعاً، وصافياً، داخل تموّجه وانحداره.
إن ما يثير انتباهنا، الآن، في الغالب، قصائد معينة لا شعراء محددون. قصائد استطاعت، منفردة، أن تكون تعبيراً آسراً، وتجسيداً لرؤيا جزئية. غير أن الشاعر لم ينجح في تحويلها إلى مجال رؤيوي ينبثق عن إنجازه السابق ويظل، في الوقت ذاته، مفتوحاً على قصائده المقبلة.
لقد كان لغياب الرؤيا المتفردة للشاعر العربي الحديث نتائج مروعة، كان من أخطرها ضياع الحدود بين شاعر وآخر. وكما أشرنا تواً، فإن رؤيا شاعر ما، إلى الحياة والكون، لابد أن تترك أثرها واضحاً على جميع عدّته الشعرية: لغته، صوره، ومنحاه في بنائهما. ونتيجة لهذا الترابط العميق بين رؤيا الشاعر وبين تجسيدها التعبيري، فإن تميّز شاعر عن آخر في الرؤيا يقود، بالضرورة، إلى تميز كل منهما عن صاحبه أسلوبا وطريقة بناء.
إن عدم امتلاك الشاعر الحديث لرؤيا شعرية تميّزه، وتجعله هو نفسه دون سواه، قد أدى إلى هذه النتيجة المدمرة: ضياع التفرد وفقدان النبرة الخاصة في معظم الشعر الذي تكتبه الأجيال المتأخرة. لقد تناثرت شظايا الأسيجة، وتداخل دخان القرى، وامتزجت الحقول ببعضها، فما عدنا نفرق بين قصيدة هذا الشاعر وقصيدة شاعر سواه. ما عاد في وسع القارئ، كما كان الأمر سابقاً، أن يميز ما يقرأ.
كانت القصيدة، غالباً، تشير بوضوح إلى شاعر بعينه، يحاول، ببسالة ومشقة، أن يقيم عالماً خاصاً به، ويبني ثوابت أسلوبية وتعبيرية تنبثق عن رؤياه الشعرية، وتعبر عنها في الوقت ذاته.
لا تنضج الرؤيا الشعرية، لدى شاعر ما، إلا بعد عناء ومكابدة بطوليتين، ولا يتم نضجها إلا على عذاب مزدوج: عذاب المعاناة وألم المعرفة. ولا تستوي إلا على نارين ممتزجتين: الخبرة والثقافة وما يمتد بينهما من عناء لا حدود له.
ومن الطبيعي أن تجربة، بهذه السعة والكثافة، ينبغي لها أن تتسع للعناء العام، أعني عناء الآخرين ومسراتهم الخاصة. إن الشاعر، ذا الريا الراسخة، حين يعبر عن رؤياه، فإنما يفصح عن إحساس شامل بالفجيعة، أو الفرح، أو البطولة، ولا يعود وتراً منفرداً، بل يندرج في نبرته أنين عام هو أنين البشر كلهم، ونشوة شاملة هي نشوتهم جميعاً. ولا تنمو رؤيا الشاعر، بمعنى آخر، إلا عبر ارتباط حميم بالآخرين، ولا تتجسد بشكل مؤثر إلا حين يصبح صوته، رغم فرديته وسرّيته، صوتاً إنسانياً ونشيداً شاملاً لمجد شعبه ومكابدته.
لذلك، فإنّ الرؤيا الشعرية لا ترقى إلى مستواها الأعمق والأشمل إلا بعد أن يلتقي فيها الخاص والعام في مزيج ملتحم مؤثر. وبعد أن يتبنّى الشاعر، بقدرة فذة، الهم العام. ويجرّده مما فيه من شيوع، وعمومية، وصخب ليعبر عنه بحرارة فردية خاصة، تجعل من هذا الهم العام شاغلاً شخصياً، شديد الخصوصية. والعكس، في هذه الحالة، صحيح أيضاً؛ فالشاعر حين يعبر عما يبدو وكأنه هم شخصي، لأول ولهة، فإنه ينأى به عن الضيق والمحدودية ليجعله رحباً، حانياً، مفتوحاً على الآخرين. إن الشاعر، هنا، يسعى إلى المواءمة:
« بين تشخْصنه وفرادته، من جهة، وكلية حضوره الإنساني من جهة ثانية، بين الشخصيّ والكونيّ، بين الذات والتاريخ: يريد أن يكون نفسه وغيره، الزمان والأبدية، في آن »(23).
وبذلك يسقط الحد الفاصل بين العام والخاص، بين الذات والموضوع. وهكذا يصبح الشأن الشخصي الصغير، بعد أن يمر من خلال رؤيا الشاعر، شأناً عاماً شاملاً، ويتحول الظرفي العابر إلى قضية عصيّة على حدود الزمان والمكان. وبفعل هذه الرؤيا، وجمرها المتقد النظيف يغدو الهم العام هماً شخصياً: ولهاً خفياً، أو شجناً شديد الخصوصية.


