أنت هنا

قراءة كتاب في حداثة النص الشعري

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
في حداثة النص الشعري

في حداثة النص الشعري

يعالج هذا الكتاب موضوع الحداثة في النص الشعري عبر خمسة فصول، تطرق فيها المؤلف لحداثة النص المتمثلة بحداثة الرؤيا، وكذلك إلى الشاعر الحديث ورموزه الشخصية، إضافة إلى حدود البيت وفضاء التدوير، ومن ثم تناول المؤلف الشعر خارج النظم وداخل اللغة، ليتوقف في الفصل ا

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 6
من خصائص الرؤيا الشعرية، أنها تمتد عبر أعمال الشاعر المبدع كلها، فهي ليست دمعة، أو قطرة من المطر، بل نهر، مترابط، تنضفر أمواجه، ويندغم بعضها ببعض. قد ينجح الشاعر، أحياناً، في التعبير تعبيراً استثنائياً، عن رؤياه في عمل واحد. قد يحصل هذا حقاً، لكن حصوله أمر شديد الندرة أحياناً.
 
إن الرؤيا الشعرية لا بد أن تستند إلى قضية جوهرية، أو انهماك صميمي يملأ كيان الشاعر، ووجدانه وقصائده. وهذا الشاغل ليس فكرياً فحسب، بل جمالي ونفسي أيضاً: ينعكس في منهجه الشعري، ويختزل صلته بالدنيا، ويضفي على وجوده الفردي معنى شاملاً.
 
والرؤيا التي تنبثق من همّ كياني كهذا لا يمكن التعبير عنها دفعة واحدة. بل لا بد من تشظّيها، في أعمال الشاعر، وانتشار أجزائها في كل ما يكتب من شعر ونثر.
 
وللعثور على الشكل النهائي لرؤيا شاعر ما، فإن نتاجه، مجتمعاً، لا قصائد محددة منه، يجب أن يكون موضع عناية حميمة. فالوقوف على رؤيا شاعر حقيقي، في وضوحها وغناها، لا يتم إلا عبر تفاعل أعماله كلها، وتناغمها في سياق ينضح بالدلالة، والتجسيد المدهش، والتعارضات الحية، دون أن يجافي بعضها بعضاً، أو يدحض أحدها الآخر أو يلغيه، بل ليزيده ثراء وديناميكية.
 
ترتبط الرؤيا الشعرية، كما أشرنا، ارتباطاً حميماً بشكلها التعبيري. وتتصل، أيضاً، بمجموعة من الرموز الشخصية للشاعر الذي استطاع، من خلال تنميتها، والإلحاح عليها، وبلورتها، باستمرار، أن يرتفع بها إلى مستوى راق من الفاعلية والدلالة الخاصة، وأن يحولها إلى رموز شخصية، فردية ومتفردة. ورموز الشاعر هذه، مجتمعة، تفصح عن مكونات رؤياه بجميع عناصرها الفنية والفكرية والوجدانية، وتومئ إلى عالمه الشعري الخاص به.
 
لقد نجح السياب وأدونيس والبياتي، مثلاً وكما سنرى في فصل قادم، في العثور على أساطيرهم الشخصية، ورموزهم الخاصة. إن وفيقة، وجيكور، وبويب لدى السياب، ومهيار، والصقر لدى أدونيس، وعائشة لدى البياتي ساعدت هؤلاء الشعراء كثيراً في التعبير عن رؤاهم بحيوية مثيرة، حتى أصبحت، مع الزمن، نوافذ تطل على رؤيا كل واحد منهم، وتشير إلى ما فيها من سحر، وخضرة وعنف.
 
لغة القصيدة الحديثة:
 
تشكل اللغة، في الكتابة الشعرية، ركناً هاماً لا تنهض، بدونه، قصيدة ذات رؤيا مؤثرة. ومع ذلك فإنها، أي اللغة، ما تزال، إذا استثنينا بعض الشعراء المتميزين، عرضة للكثير من سوء الفهم.
 
بدءاً، يكاد يكون من المسلّم به، بين نقاد الشعر اليوم، أن اللغة هي موطن الهزة الشعرية، التي تصدم، وتباغت، وتنعش، وتجسد الفاعلية الشعرية وفتنتها. ورغم ما يكون في هذا القول من إعلاء لفعل اللغة الشعرية ووضعها، بالنتيجة في المرتبة الأولى للفعل الشعري إلا أنه إعلاء يجد، رغم كل شيء، مصداقيته في كل قصيدة ممتلئة وبارعة. كما يكشف عن وجاهته في سياق الإنجازات المترابطة لكل شاعر عميق التأثير في لغته القومية.
 
لا شك أن لغة القصيدة، تمثل سحرها الجمالي الأول، وتختزل كيانها المادي، أي جسدها الذي يمور بالحركة والشهوة، وينضح بالغنى والدلالة الوجدانية والفكرية والفنية. إنها مركز الفتنة والحيوية في القصيدة. وليس مبالغة، كما يبدو، القول بأن « في كل قصيدة عربية عظيمة، قصيدة ثانية هي اللغة »(24).
 
ففي الطريق إلى القصيدة لا نواجه، في البداية، إلا اللغة. إن معظم ما في القصيدة من جمال، ومعنىً، وفاعلية لا يقيم إلا هناك: في لغتها الشعرية، ففي هذه اللغة، وعبر بنائها الجليل الآسر، يمكن العثور على جمر الروح، وأحجار الدلالة الساطعة، والرؤيا.
 
إن لغة القصيدة الحقة هي تلك اللغة التي تمتزج بدلالتها، امتزاجاً بالغة القسوة والبراعة. ومفردات لغة كهذه ليست أجزاء أساسية في هيكل تعبيري حسي فقط، بل هي أبعد من ذلك، إنها شظايا المعنى والدلالة وقد تفجرت بالتوتر والحرارة والشاعرية.
 
ولست أظن أن شاعراً ما يمكنه أن يجد عوضاً مرْضياً عن لغة غائبة، أو مفككة، أو بطيئة النمو. والقصيدة ليست إلا سحراً خاصاً، ورؤيا شخصية مشعّة، في كيان تعبيري محسوس. إنها خضرة فردية خلابة تندلع في خشب اللغة، وأشجارها المعمرة، فتبعث فيها الورق والضوء والجنون.
 
وذلك لا يعني، بطبيعة الحال، دعوة إلى اللغة (الجميلة)، أي تلك التي يكون جمالها غاية في حد ذاته؛ فهذا مطلب ساذج دون شك. إن شاعرية اللغة قد تكمن، أحياناً، في ما يبدو فظاً وغير شاعري. وقد لا يكون من المغالاة الإشارة إلى أن أكثر أنماط الكتابة اكتظاظاً بالشعر، ربما، ذلك النمط من الأداء اللغوي الوعر المشاكس، البعيد عن التجانس أحياناً، لكنه ينبثق عن رؤيا شعرية تجعل من هذه الوعورة عنصراً أساسياً في فاعليتها.
 
إن جماليات اللغة الحديثة، قد تقع في الطرف الآخر، القصي من جماليات الأداء الكلاسيكي في لغة الشعر وقوته السحرية؛ فالقصيدة الحديثة قد لا تشتق جمالها من الفخامة أو التجانس، بل تستمد ربما من حقل آخر: حيث يكون « التنافر واللا تناسق واللا تكامل واللا نمو والقبح والانقطاع »(25) عناصر حية في جمالية جديدة لا عهد للشعر بها.

الصفحات