يعالج هذا الكتاب موضوع الحداثة في النص الشعري عبر خمسة فصول، تطرق فيها المؤلف لحداثة النص المتمثلة بحداثة الرؤيا، وكذلك إلى الشاعر الحديث ورموزه الشخصية، إضافة إلى حدود البيت وفضاء التدوير، ومن ثم تناول المؤلف الشعر خارج النظم وداخل اللغة، ليتوقف في الفصل ا
أنت هنا
قراءة كتاب في حداثة النص الشعري
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 4
ومع ذلك، فإن هاتين الكلمتين أخذتا، في النقد الحديث، تتبادلان الدلالة والمعنى(20)، ولم يعد من الممكن، إبداعياً ونقدياً، الفصل بين رؤيا الشاعر وكيانها المادي الماثل: القصيدة. الرؤيا ليست الفكر مجرداً، أو وجهة النظر وحدها. وهي، أيضاً، ليست الموقف الفكري للشاعر معزولاً، بل هي كل هذه العناصر، معاً، في مزيج فني وفكري حاد ومتجانس.
إن الشاعر، كما تشير موسوعة برنستون للشعر والشعرية:
« قد يعبر، في القصيدة، عن جوانب من رؤياه بطريقة مباشرة، غير أن الكثير من هذه الرؤيا يظل مقيماً في المستويات غير الواعية من العقل، ولا يتم الكشف عنه إلا بواسطة بناء القصيدة، أسلوبها، صورها، ولغتها المجازية »(21).
وهذه الجوانب، من رؤيا الشاعر، قد تتعاون على التعبير عنها، مجزأة، قصائد متعددة، وهنا تبرز مهمة الناقد في الكشف « عن هذه الرؤيا في وحدتها النهائية »(22).
تأسيساً على ما أشرت إليه، فإن كلمتي (الرؤية) و(الرؤيا) تنهضان معاً، في التعبير عن مدلول متشابك واحد؛ يحتضن العمل الشعري كله، كياناً حسياً، عامراً بالقيم الجمالية والإبداعية، وتوهجاً فكرياً ووجدانياً ونفسياً يتشظى في طوايا النص الشعري، يزيده فتنة ونضارة، ويزداد به، في الوقت نفسه، قوة وعمقاً.
والرؤيا لا بد لها، كيف تفصح عن نفسها بحيوية وبهاء، أن تتجلى ضمن مديات أو مستويات محددة، منها ما ينتمي إلى النص في تجسّداته الحسيّة الملموسة، وأنا، هنا، أعني الصورة واللغة بشكل خاص. ومنها ما يتكشّف عنه التحام الشكل بدلالته الداخلية ثانياً. ومنها ثالثاً، ما تفصح عنه صلة الشاعر بماضيه ومستوى تفاعله مع هذا الماضي.
الرؤيا حلماً وإنجازاً:
يبدو أن شعرنا الحديث، عموماً، يواجه اليوم معضلة لا يجوز التهوين منها. ولا تكمن هذه المعضلة، كما نعتقد، في نفاد أشكال التعبير في القصيدة الحديثة، أو تكرار موضوعاتها، بل تكمن في جانب آخر على درجة من الخطورة: أعني غياب الرؤيا، أو ضعفها في معظم النماذج الشعرية لاسيما لدى الأجيال المتأخرة.
لقد بدت القصيدة الحديثة وكأنها تتشبث، بأظافر دامية، بما كان لها من مواقع أمام أساليب شعرية محافظة، وذائقة راضية من الشعر بملامحه الخارجية، وضجيجه الصارم الذي يجافي حداثة النص وحداثة الذائقة معاً.
إضافة إلى ذلك، فإن الكثير من القصائد، التي تكتب بقصد أن تكون قصائد حديثة، لا تلبث أن تتكشف لنا، فور إنجازها، إنها تقع في الصميم من الأسلوب التقليدي. إنها تفتقر إلى الرؤيا ولا تملك ما تقدمه لموضوعها الشعري، سوى تلميعه بفيض من الغناء الساذج الرتيب.
لا شك أن القصيدة العربية تعاني، هذه الأيام، من ضعف مخيف في الخيال وفاعلية الصور، وتشكو أيضاً، من تسطيح لغوي. كما أن الكثير من نماذجها يفتقر إلى حرارة الواقعي والمحسوس. لكن أشدّ هذه العيوب جدية هو ذلك الخلل القاتل: غياب الرؤيا، هذا الغياب الذي جعل الكثير من شعرنا الحديث لا يعدو كونه (كماً) شعرياً هائلاً، يحركه انفعال عابر، وتحرض عليه سذاجة عاطفية، أو نزوع إلى المباهاة. ولا شك في أن ضعف التكوين الثقافي للشاعر من جهة، وخمول الفاعلية النقدية من جهة ثانية، يتحملان جزءاً خطيراً من هذا الخلل.
دعونا نتساءل معاً:
- ما الذي يشدنا إلى الكثير من شعر السياب، مع ما قد نجد فيه من أجواء خانقة حيناً، ورتابة إيقاعية، أو عاطفية مفرطة حيناً آخر؟
- ما الذي يغرينا بقراءة أدونيس بالرغم مما نجده في شعره، أحياناً، من غموض وتجريد، وأشكال لا تخفي وراءها، أحياناً، غير البراعة المدهشة، أو الثقافة الباهرة؟
- ما الذي يجعل البياتي مقروءاً، بشكل عام، مع أن الكثير من قصائده لا يحفل، دائماً، بثراء اللغة وحيوية الشكل؟
- ثم، لماذا لا يحول ما في شعر صلاح عبد الصبور من نثرية وتفكك دون قراءته، أو التمعن فيه؟
- وأخيراً: ألا نجد أنفسنا ميالين إلى قراءة محمود درويش مع أن بعض قصائده لا يخلو من عبث بريء، أو إطالات يمكن حذف الكثير منها أحياناً؟
في اعتقادي، إن ما يجعل هؤلاء الشعراء مقروئين هو امتلاكهم رؤيا شعرية، أو مشروعاً لرؤية شعرية: تتشكل في قصائدهم، وتجعل منها كلاً متنامياً، يسعى إلى تقديم صورة لوعيهم بأنفسهم، من جهة، وللعالم الذي يعيشون فيه، ويعيشونه من جهة أخرى، مع تفاوت هذه الرؤيا عمقاً ووضوحاً من شاعر إلى آخر.


