أنت هنا

قراءة كتاب في حداثة النص الشعري

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
في حداثة النص الشعري

في حداثة النص الشعري

يعالج هذا الكتاب موضوع الحداثة في النص الشعري عبر خمسة فصول، تطرق فيها المؤلف لحداثة النص المتمثلة بحداثة الرؤيا، وكذلك إلى الشاعر الحديث ورموزه الشخصية، إضافة إلى حدود البيت وفضاء التدوير، ومن ثم تناول المؤلف الشعر خارج النظم وداخل اللغة، ليتوقف في الفصل ا

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8
وهكذا تحولت المنجزات الفنية لغة وصوراً وبناء، إلى تقليدية جارفة: قيود من ذهب البلاغة الرنان. حتى صار الكثير من شعرنا، اليوم، يعيش على هذه البلاغة، في لغة القصيدة الحديثة، دون أن يبتكر لغته وجمالياته هو. ما عادت صلة القصيدة الحديثة بإنجازاتها تأخذ شكل الإضافة المستمرة، بل أخذت شكلاً مغايراً: علاقة الناقة بالسنام. أخذت تقتات على ما في ذاكرتها من تقاليد لغوية، وصياغات جاهزة، دون أن تجهد في ابتكار جديدها الذي يميزها. وراحت تتكئ على احتياطها الجمالي، بدل أن تغامر في أرض من الشهوة والبراءة، وتمتزج بهواء العالم ونبضه وهواجسه. إن ذلك كله قد أثّر على حيوية القصيدة العربية، ووضعها في مواجهة أفق مربك: يحجب عنها الرؤيا، ويعيقها عن تحقيق التنوع والثراء، وكأن شعرنا الحديث قد أصبح فعلا « قصيدة واحدة تتألب عليها مئات الأسماء في تنقيلها من جريدة إلى مجلة إلى منبر إلى ديوان »(32).
 
وبعيداً عن الاتجاه السابق، وفي موقع مناقض له ينهض اتجاه آخر فيما يتعلق باستخدام اللغة في القصيدة الحديثة، إنه اتجاه يقسو على هذه اللغة، ويمعن في إفراغها من شحنة الحياة الحسية، الريانة.
 
من البديهي جداً أن أبرز ما يميّز لغة الشعر توتّرها، وحسيتها الطاغية، وانغمارها بلهب التجربة ورمادها وجنونها، وحين تنخفض حصتها من هذه الخصال فإنّ ذلك لا يعني إلا شيئاً واحداً: ضعف انتمائها للحساسية الشعرية.
 
لقد اتسم هذا الاتجاه الشعري بطغيان المجرد والذهني والافتقار إلى الصور. فالقصيدة، التي تكتب تحت خيمته، تستند في معظم الأحيان إلى مدخرات الذاكرة، بديلاً عما تتفجر به التجربة الحياتية من غنى حسي ووجداني وفكري. تغترف لغتها من حافظة يقظة بدل أن تكون خبرة الحياة، بما فيها من بهجة، وقسوة، وحنين، مصدراً لحقل لا ينتهي من ثرائها وجاذبيتها لغة، وبناء، وصوراً.
 
ومن الطبيعي أن ذلك سيؤدي، حتماً، إلى إضعاف شعرية اللغة، وإرباك صلتها بالحياة وما تشتمل عليه من ضراوة. ويؤدي، أيضاً، إلى مظهر شديد الخطورة: هو غياب المحسوس. وهذا الغياب الحسي يعني، أن مجموعة من عناصر الأداء المحتدم الحار قد تم نفيها خارج الفاعلية الشعرية، وأننا أمام غياب كامل لجمر الشعر، وغباره الحافل بالدلالة.
 
لا شك أن نفي الشيء الملموس والكائن الحيّ خارج حركة القصيدة وحيويتها الداخلية سيخلف فراغاً بشعاً: أبنية منحوتة، سطواً على متحف الذاكرة، واستدعاء قصدياً للذهني والمجرد.
 
قطعاً، أنا لا أدعو، هنا إلى غياب الفاعلية الذهنية عن العمل الشعري، ولا أعني، أيضاً، الاستعاضة عن الفكر بالدوران في إطار الحسيّ، والملموس فقط. إن ما أهدف إليه هو أن يتحول الفكر، داخل النص الشعري، إلى طاقة شعرية تنتشر في خلايا العمل كله، وأن نستعيض عن المنطق ورماده بيقظة حسية، جسدية، متوهجة.
 
لا تعني حسية اللغة، إذن، نفي الفكر عنها؛ إذ يظل الفكر بالنسبة للغة الشعر، لحمها الرهيف الحيّ. إن ما تعنيه، هو أن يفارق الفكر تجريديته، ويتخذ شكل التجربة التي يفصح فيها الفكر عن نفسه بثراء حسيّ، صوريً، شيئيّ، مكتنز بالمعنى.
 
إن التجريد، في لغة القصيدة، لا يمثّل، في الغالب، إلا العجز عن الارتفاع بهذا التجريد إلى أن يكون جزءاً من أداء رؤيويّ كليّ: يتوحد فيه الملموس والمجرد، الأرض والحلم، التجربة والذاكرة في دلالة نهائية فياضة.
 
الرؤيا وشكل التعبير:
 
ليست الرؤيا الشعرية، لدى شاعر ما، إنجازاً هيناً، ولا ترتبط بالكم الشعريّ ارتباط المقدمات بالنتائج، بل هي عمل ينمو في الأعماق سرياً مؤلماً، وبطيئاً. وتَشكل هذه الرؤيا يندغم ويتزامن ويتأثر بتطور الشخصية الشعرية والذهنية للشاعر. وهو يتصل، كذلك بنضجه الحسيّ والروحيّ.
 
إن الرؤيا، باختصار، لا يتم اكتمالها إلا إذا انبثقت عن همّ جوهري يشغل الشاعر ويستقطب طاقته الروحية ونشاطه الحسي. إلا إذا كانت إشعاعاً يصدر عن ذلك الشاغل الأساسي فيلوّن ذاكرة الشاعر، وعالمه الداخلي، وصياغاته، وأشكاله الفنية.
 
لذلك فإنّ الرؤيا الشعرية تظل مرتبطة بشكلها التعبيري، عصية على الانفصال عنه؛ فهي ليست الفكر مجرداً، بل الفكر وقد صار جزءاً داخلياً من هيئة حسية حارة. وهي، أيضاً، ليست الموقف وحده، بل الموقف وقد اندرج في مناخ القصيدة وتشكلها الأدائي. تظل الرؤيا، إذن، متصلة، اتصالاً عضوياً بكيان النص الشعري، لا تبارحه. إنها عنصر حاسم، في حيوية النص، ذائب في هيكل العمل كله، ومنتشر بين تكويناته الداخلية: يوحد أجزاءه، ويربط بين مفاصله، واتجاهاته.
 
إن العلاقة بين الرؤيا والقصيدة علاقة تفاعل من نمط خاص جداً، تجعل من انفصالهما أمراً شاقاً. فالرؤيا الراسخة تلقي بظلها العميق على مهارات الشاعر الكتابية، وتنعكس على أشكاله التعبيرية، وتطبع لغته الشعرية بطابعها.
 
وهي تمنح صاحبها، مع مرور الزمن، مفاتيح أساسية، كلمات مركزية، ذات ثقل خاص في تجربته، بحيث لا يتم الوقوف، تماماً، على عناصر رؤياه دون استخدام هذه المفاتيح، سواء أكانت كلمات معينة، أم رموزاً، أم تعابير خاصة.

الصفحات