أنت هنا

قراءة كتاب الدائرة المربعة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الدائرة المربعة

الدائرة المربعة

كتاب " الدائرة المربعة " ، تأليف راتب الحوراني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 4

ـ أصحيح ما تقول؟

خفق قلب سميرة جزعاً من الاختبار الذي ينتظرها، فسارع روبير إلى طمأنتها:

ـ لا، إنني أمزح!

وطبع على شفتيها قبلة استغرقت لحظات فأحاطته بذراعيها والتصقت به بقوة وكأنهما يوقعان بالشفاه عقد تجديد العهد بينهما. صارحته باحساسها بأنّ العلاقة تتعمق أكثر فأكثر في هذه الحوارات الصريحة التي لم تعرف لها مثيلاً حتى في علاقتها السابقة مع جميلة. وأكد لها روبير ثقته بذلك، على الرغم من أنّ صراحته هذه وآراءه لم تؤد خلال علاقاته السابقة إلّا إلى الخيبة والفشل ولكنه لم يفقد الأمل في لقاء امرأة تفهمه، وهمس في أذن سميرة: وجدتها! وجدتها!

* * *

بدلاً من أن تنفرط العلاقة كما تخوفت سميرة وجدتها تتوطد أكثر من قبل وازداد تعلقها بروبير ولسان حالها يقول: «أي فتى عربي يتحلى بمثل هذا الخُلق؟». تصارحه ويصارحها.

هل يعقل أن تكون الصراحة هي الخطر الأكبر الذي يتهدد العلاقة؟

مستحيل!

هناك من يعارض بين الحقيقة والسعادة وكأنهما ضرتان لا تجتمعان إلّا لتتنافرا. ومنهم من يعارض بين الحرية والسعادة.

ألا يمكن تأسيس السعادة على الحقيقة وعلى الحرية في آن معاً؟

من لم تغره هذه الفرضية؟

ـ لا أدري ما الذي يمنعني من الوصول. تأخذني لهفة كبيرة ولا تردني. لهفة لذيذة كتلك التي يحس بها المرء عندما يستحكه جلده حول بثرة قريبة من الشفاء ويشتهي أن يقتلع البثرة، ولا يصل إلى اقتلاعها. لذة يشوبها دائماً شعور بالمرارة، مرارة عدم الوصول إلى اجتثاث البثرة، إلى فقء الدملة وتنفس الصعداء. الوصول إلى شاطىء الأمان بعد هيجان العاصفة.

ـ هي التيارات الجوفية تجرفنا وتقذفنا حيث تشاء. نكاد لا نستطيع مقاومتها وكأننا نتواطأ معها. تشدنا وتدفعنا مرة إلى الشاطىء الآمن ومرة إلى اللجة الصاخبة، واحداً إلى ظهر الموجة وآخر في أحشائها. لا بد من سبر هذه الأعماق لمعرفة أسرارها، لاتقان السباحة في بحارها ومؤالفة تياراتها والعوم معها حتى نصير جزءاً منها ترفعنا إلى أعلى القمم وتهبط بنا إلى أعمق القعور.

ـ بي شوق كبير إلى قبطان ماهر يقود سفينتي إلى شاطىء أمانها. أين أنت يا فاقىء دملتي بإبرتك النظيفة المطهرة الحادة اللذيذة الملمس؟ أنتظرك وأبحث عنك بين حملة الإبر وكأنني أبحث عن إبرة في كومة قش. فهل أنت هو؟

ـ أتمنى أن أكونه، وأسعى لأكونه، لأكون كما تشتهين. أبذل قصارى جهدي كما تعرفين لأصل وإياك إلى أفق جديد، إلى شاطىء بحر جديد. ولكن إذا وجدت ضالتك المنشودة مع غيري لا تحرمي نفسك منها بسببي، فأنا لا أريد أن أكون حجر عثرة على طريق سعادتك، إذا كانت هذه هي السعادة، أو على طريق لذتك على الأقل. أما القبطان الماهر فلن يكون إلّا أنت نفسك.

* * *

كان قد مضى على لقائهما الأول أكثر من خمسة أعوام.

كان ذلك في المكتبة الوطنية (58 شارع ريشيليو) عندما لاحظته ولاحظها وتبادلا الابتسام خلال بضعة أيام ثم التحية الصباحية وصارا يتعمدان الوصول في تمام التاسعة للجلوس في مقعديهما المتقابلين، هي على الرقم 283 وهو على الرقم 282، في إحدى زوايا قاعة المطبوعات. حتى جاء يوم كانت فيه سميرة في مزاج مرح وبادلت روبير ابتسامة عريضة ألحقتها بدعوة جريئة إلى تناول القهوة. لم يستطع روبير مقاومة الابتسامة ولا الدعوة، بل قابلها بسرور كبير وارتياح وكأنها جاءت لتلبي دعوة داخلية عنده قد أحس بها أكثر من مرة وكان يؤجلها قائلاً لنفسه «لا داعي للعجلة، لنستمتع باللقاء عن بعد، لا أدري إذا ما كانت نفسيتها تتطابق مع تعابير وجهها، ابتسامة لطيفة عن بعد خير من مشاحنات علاقة حميمة قد تتحول إلى جحيم».

كان روبير ما زال خارجاً لتوّه من علاقة شبه زوجية استغرقت ست سنوات تحولت خلالها إلى نوع من استلاب وتملك، إلى قيد لم يعد يحتمله. فترك كل شيء وطلب إجازة سنة «سابعة» مدفوعة الأجر من وظيفته لمتابعة الدراسة، وزج بنفسه في كتابة أطروحة عن هولدرلين كان قد فكر بها طويلاً.

أما سميرة فكانت قد بدأت تستعيد مرحها ونشاطها الطبيعي بعد الصدمة والخيبة اللتين أصابتاها من أقرب صديقاتها جميلة التي تركتها لتتزوج من رجل أعمال عربي تربطها به بعض القرابة وسافرت معه إلى الولايات المتحدة.

عاشت جميلة مع سميرة في شقة هذه الأخيرة مدة سنتين بعد أن جمعتهما صداقة طفولة ودراسة في الوطن البعيد. في باريس تجاوزت علاقتهما حدود الصداقة العادية إلى درجة من القرب الروحي والجسدي قد يعتبرها بعضهم شذوذاً. ولم تعتبرها سميرة أو جميلة إلّا أمراً طبيعياً وأكثر من طبيعي بالمعنى الإنساني الإيجابي لما هو فوق الطبيعي.

الصفحات