كتاب " الدائرة المربعة " ، تأليف راتب الحوراني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الدائرة المربعة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الدائرة المربعة
أُخذ روبير بروعة سواد عينيها اللوزيتين.
وسرى تيار من كهرباء غير فيزيائية ولا بيوفيزيائية عبر الدائرة المكتملة ما بين اليدين والعينين وحقلي نظرهما. تسارعت دورتهما الدموية في حركة واحدة. وأحسا بخطورة الموقف، بقداسته. خيّم عليهما صمت كوني شمولي وانعقد لسان كل منهما عن الكلام وتعطل جسداهما عن الحراك. لم يعكر صفو هذا السكون إلّا رائحة حريق خفيفة تسربت إلى أنفيهما فانتفضت سميرة: «الشاي، الشاي، احترق الأبريق!»، ونهضت مسرعة إلى المطبخ لتطفىء نار الغاز ولحق بها روبير:
ـ لن نشرب هذا الشاي اليوم فقد سكرنا من مشروب آخر.
ـ لم يحترق كلياً، بإمكاننا أن نجرب ثانية.
ـ حسناً، إذا شئت.
ـ كنا بصدد الحديث عن جميلة. لم ينته المسلسل بعد!
ـ بل وصلنا إلى موضع مشوق جداً. قلت إنّ صداقتكما دخلت طور العلاقة الحميمة يوم كنتما مراهقتين. ماذا تقصدين بالعلاقة الحميمة؟
ـ بدأ ذلك مع بداية تفتح جسدينا. تسبقني جميلة ببضعة أشهر كانت كافية لتجعل منها السبّاقة في هذا المضمار. كنا، كلما سنحت لنا الفرصة، في غرفتي أو في غرفتها، نقف أمام المرآة ونتعرّى.
نقارن بين جسمينا. جميلة أطول مني بقليل وممتلئة أكثر مني بعض الشيء. أعترف لها أنها أجمل مني، وهي تؤكد لي العكس. كنا في حالة إعجاب الواحدة منا بالأخرى.
نتبادل الملامسة والملاعبة.
كانت فترة رائعة لذيذة.
ثم جاءت فترة توقفنا فيها عن هذه الممارسات وانصرفنا إلى الدراسة. لم أعرف أية مغامرة أخرى هناك غير هذا التقارب مع جميلة. أما هي فأخبرتني عن بعض مغامراتها مع الفتيان. مغامرات لم تتجاوز اختلاس قبلة أو لمسة أو ضمة، حسب قولها.
عندما أقمنا في باريس معاً، هنا في هذه الشقة، عدنا إلى لعبنا المفضل، إلى الوقوف أمام المرآة. وصرنا نتمادى أكثر في اللعب. جميلة شجاعة، أكثر مني. كنت أستسلم لمبادرتها في ابتكار ألوان جديدة من اللعب اللذيذ. قالت لي مرة: «ينقصنا شيء واحد لتكتمل اللعبة». وجاءت ذات يوم تبشرني: «اليوم اكتملت اللعبة». ومارسنا لوناً جديداً من اللعب. كان لذيذاً، ولكن...
سكتت سميرة وتورّد وجهها بفعل الذكريات ولاحظت علامات الإثارة لدى روبير فراحت تعتذر مؤكدة أنها لم تقصد ذلك.
ـ قصدت أو لم تقصدي. أنت مثيرة. فلا مجال للاعتذار عن كونك على ما أنت عليه. إنني أنتظر هذا اليوم بفارغ صبر منذ اليوم الأول الذي لمحتك فيه قبالتي على المقعد رقم 283. سواد عينيك.
«ليت الذي خلق العيون السودَ
خلق القلوب الخافقات حديدا»
تذكرت سميرة هذا البيت الذي لم تقرأه في كتاب ولكن لكثرة ما قيل على مسمعها وصوبها حفظته عن ظهر قلب. وهمسته في أذن روبير الذي لم يفقه منه شيئاً، ولكنه طرب لموسيقاه ومن دغدغة أنفاسها الحارة لأذنه وهزته رعشة لذيذة حاول عبثاً أن يكبتها ليستمع إلى الترجمة.
ـ سواد عينيك. بشرتك. كل شيء فيك مدعاة للإثارة، مدخل إلى حلم جميل، إلى عالم «ألف ليلة وليلة».
أخذ بيدها ونهض وإياها إلى المطبخ. أطفأ الغاز. توجها إلى الغرفة. ووقفا أمام المرآة.
* * *
وصل بهما المطاف هذه المرة، بعد أن خرجا من المكتبة ومرا بحديقة «القصر الملكي»، باللو؟ر والتويلري، إلى ساحة الكونكورد.
ـ التاريخ الفرنسي كله مكثف في هذه الساحة.
ـ تقصد ساحة الكونكورد؟
ـ نعم، هذه الساحة كانت تحمل اسم ساحة الثورة وقبل الثورة ساحة الملك لويس الخامس عشر. من الملكية إلى الثورة إلى المصالحة والوفاق (هذا معنى الكونكورد).
ـ ألا تذكر من هو الفنان صاحب اللوحة التي تحمل اسم «ساحة الكونكورد» وتمثل الساحة مزدحمة بالدجاج الأبيض، لوحة جميلة؟
ـ أذكر أنني رأيت لوحة من هذا القبيل ولكن لا أذكر اسم الفنان. وأذكر أن الدجاج ديوك وليس دجاجات. إنها معبرة جداً، فالديك في اصطلاح الفرنسيين يمثل الفرنسي نفسه، بينما الدجاج عموماً يرمز إلى الخضوع والطاعة. هكذا يرى صاحبنا الفنان الكونكورد بعد الثورة.
ـ لا شك في أنه شيوعي، من المدرسة «الواقعية»، على رمزية، على ثورية!
ـ على الأرجح. (رادّاً الابتسامة بضحكة).
تمشيا من الكونكورد صعوداً باتجاه «قوس النصر» على أعرض رصيف في باريس وربما في العالم. يقول الفرنسيون إن الشانزيليزيه أجمل جادة في العالم، لجهة الكونكورد تغطي الرصيفين أشجار كثيفة ظليلة من الكستناء البرية والمكان مقصود للنزهات. ولكن الاكتظاظ بالمتمشين يبدأ بعد مستديرة الأليزيه حتى قوس النصر، حيث ينبض العصب التجاري الأكبر في باريس على جانبي الجادة. الجانب الأيمن أكثر ازدحاماً بالمشاة لأنه أغنى بالواجهات والغاليريات، بينما الجانب الأيسر تشغله مكاتب شركات طيران ومصارف. أما مقاهي الأرصفة فمنتشرة على الجانبين.
كان الطقس جميلاً في هذه الأمسية من أمسيات الصيف لا تفسدها الأمطار الغزيرة كما يحصل أحياناً.
عندما تمطر في الصيف في هذا البلد تمطر حبالاً، على حد تعبير الفرنسيين، أو «قططاً وكلاباً» كما يقول الإنكليز، كيف نقول بالعربية؟ مطر غزير، مدرار؟ طوفان؟، الروس يقولون «تدلق من دلو».