كتاب " الدائرة المربعة " ، تأليف راتب الحوراني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الدائرة المربعة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الدائرة المربعة
أليست حقيقة الإنسان في نهاية المطاف في الخروج على الطبيعة؟ في تصحيح الطبيعة؟ أو في تكميلها نحو المزيد من الإنسانية، والثقافة والحضارة؟
ولم تشعر أيّ منهما بأي حرج في البيئة الباريسية. ولكن انزعجت سميرة كل الانزعاج من موقف جميلة وتصرفها ليس تجاه صديقتها الأولى وحسب، بل، وبصورة خاصة، تجاه نفسها إذ تركت دراستها والتحقت بزوجها ليس سعياً وراء حب كبير إنما من أجل اليسر المادي وإمكانية السفر إلى العديد من البلدان والاستمتاع بزينة الحياة الدنيا. بينما لا تعني هذه المظاهر المادية الشيء الكثير بالنسبة لسميرة الغارقة في دراسة شعر أبي العلاء المعري وفي كتابة أطروحة عن «رسالة الغفران».
وجدت سميرة في دراستها عزاء لها عن فقدان صداقتها مع جميلة وقالت لنفسها «إذا كانت جميلة قادرة على ذلك فخيراً فعلت الآن وليس غداً». وتذكرت القول الشعبي المأثور: «لا تكرهوا شراً لعله خير لكم»، هذا القول الذي يعبّر عن حالتها بدقة أكثر من القول الأصل «وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم».
ماذا كان بقي لها لولا هذه الثروة التي خلفها أبو العلاء الذي لم يخلف ولداً؟
ولكن هل بالشعر وحده يحيا الإنسان؟
لم تكن سميرة تشعر بالامبالاة تجاه الرجال أو بعدم ثقة بنفسها معهم. بل على العكس من ذلك كانت تعرف أنها تملك من الجمال والظرف ما يكفي وأكثر لإسعاد الرجل الذي تحبه، ولكنها تخشى أن تكون علاقتها السابقة مع جميلة عائقاً أمام تطور علاقة جديدة ولأول مرة مع رجل. فهي تتوق إلى تنظيم حياتها مع شخص تحبه ويحبها. لا يهمها إن كان هذا الشخص رجلاً أو امرأة، كل ما يهمها أن يكون لطيفاً منفتح الذهن والروح، وكانت اعتبرت أنها وجدته في جميلة. وها هي الآن تعيش وحدها مع رهين المحبسين، أستاذها في التحرر من الكثير من الأحكام الخاطئة وفي التشكيك بالمسلّمات الموروثة، تذكره كلما جابهتها مشكلة غير محسومة ولسان حالها يقول «ليت شعري، ما الصحيح؟» وما أكثر المشاكل التي لا تعرف الحلول بعد!
تذكر سميرة جيداً يوم الاثنين ذلك عندما بادرت ودعت صاحب الابتسامة اللطيفة الجالس على المقعد المقابل لمقعدها. وهي فخورة بأنها هي التي بادرت إلى دعوته ولم تنتظر دعوته كما تفعل الفتيات والنساء التقليديات. وكم من مرة أكدت له ذلك لاحقاً، لا لتعاتبه بل لتذكره بأنها ليست تقليدية ولا تقبل أن تكون سلبية متلقية غير فاعلة وبأنها صاحبة قرار ولكنها ليست تسلطية. وقد توسمت فيه خيراً منذ اللقاء الأول. فهو فرنسي من أم ألمانية، يدرّس اللغة الألمانية وآدابها في ثانوية بولارين، ضاحية قريبة من باريس، إذن أوروبي «متحرر» من الكثير من المظاهر والأحكام المسبقة التي تقيّد الشاب العربي في أكثر الأحيان. استأنست به وبحديثه على الفور وكان فرح كل منهما كبيراً عندما عرف أنها تكتب أطروحة دكتوراه عن شاعر عربي كبير لم يكن يعرفه من قبل، وعرفت أنه يكتب أطروحة عن هولدرلين الشاعر الألماني المعروف الذي سمعت عنه ولكنها لم تقرأ له شيئاً. وتفاءلا خيراً بهذه العلاقة الجديدة وتوقعا أن تفتح لكل منهما آفاقاً جديدة بل قارة جديدة بكاملها.
ومنذ ذلك الحين صار لقاؤهما يتكرر يومياً تقريباً، بل وأكثر من مرة في اليوم أحياناً. قهوة صباحية، استراحة قهوة أخرى قبل الظهر، استراحة الغداء، استراحة أخرى بعد الظهر للتمشي في الحديقة المربعة بحدودها الخارجية والدائرية بممشاها الداخلي. وأخيراً مغادرة المكتبة في نهاية النهار قبيل أن تقفل أبوابها حوالى الساعة السابعة والنصف مساء. وغالباً ما كان لقاء المساء هذا ينتهي بتناول العشاء في أحد المطاعم المتواضعة القريبة من المكتبة أو في الحي اللاتيني، أو بنزهة على الشانزيليزيه. كانت هذه اللقاءات والنزهات في كل مرة غنية بمناقشات تشمل من الموضوعات كل ما يخطر على بالهما من هموم دراسية إلى هموم شخصية بحتة أو ميتافيزيقية وغير ذلك.
لم يمض على تعارفهما شهر واحد حتى تولّد لديهما إحساس وكأنهما يعرف الواحد منهما الآخر منذ سنوات عديدة.
كلما تعرضت العلاقة لخطر الانفساخ كلما كانت تخرج أكثر صلابة وتتوطد على أرضية جديدة وقلق جديد.
* * *
عندما أخبرته عن صداقتها السابقة مع جميلة تعمدت أن توحي إليه بشغور المكان الذي كانت تشغله جميلة في قلبها وفي شقتها دون أن تفصح عن رغبتها في أن يكون هو المرشح لملء هذا الفراغ، وأحست أنه تلقى الرسالة وسارع إلى إبداء بعض التحفظ تجاه النصف الثاني من مضمونها.
وأخبرها بدوره عن حريته المستعادة حديثاً وفي الوقت نفسه عن حرصه على عدم فقدانها من جديد، ولكنه رحّب بعلاقة حرة لا تعرف الحدود ولا القيود مع فتاة بجمالها وأنوثتها تعامله بالمثل. ولم تدرك حق الادراك سبب تحفظه، وظنت أنه يخفي عنها أمراً ما، ربما علاقة ما مع امرأة أخرى أو أنه يريد الاحتفاظ بخط للرجعة ولا يريد توظيف نفسه كلياً في هذه العلاقة الجديدة قبل أن يخضعها للتجربة. وهذا يعني في نظرها عدم ثقة بمستقبل العلاقة وبالتالي عدم ثقة بها شخصياً.
ولم تستغرب هي هذا الأمر كثيراً، إذ كل علاقة إنسانية إنما تبنى على التجربة والاختبار، فصار همها الأول والأخير في هذه العلاقة، بل وهاجسها الدائم، أن تكسب ثقته وأن تثبت لنفسها وله أنها قادرة على مبادلته الحب كأية امرأة أخرى وأكثر، بل إنها هي المرأة المثلى والأكثر جدارة بحبه في حين أن الأخريات لا يعرفن الحب الحقيقي. ولكن ما هو الحب الحقيقي؟
هو بدوره تعلق بها ومن حرصه على هذه العلاقة لا يريد التسرع الذي أحسه من جانبها ولا يريد لها أن تتحول إلى علاقة عادية سرعان ما يدخلها الابتذال والحاجات اليومية التي قد تؤدي بكل ما هو إيجابي في العلاقات الإنسانية الحميمة. ولكن كيف السبيل إلى إقناعها بوجهة نظره هذه وتصوره للعلاقة المثلى خلافاً لما يسميه عامة الناس حباً وغالباً ما ينتهي إلى ضده؟ فأي حب هذا؟
وهكذا منذ بداية علاقتهما وهما في توتر وقلق، كأنهما على خطين متوازيين يلتقيان ولا يلتقيان، وكأن الذي بينهما حب وليس بالحب. ولكن ما هو الحب؟ هذا السؤال طالما أرّقهما وما زال يثير نقاشات حادة بينهما.
ما هو الحب؟ وما هي الصداقة؟ وهل يمكن بناء الحب على الصداقة؟ أم أنّ هذا من قبيل بناء السعادة على الحقيقة، أو على الحرية؟ وهل هذا مستحيل؟ أم أنّه بصعوبة تربيع الدائرة؟
منذ الأيام الأولى لعلاقتهما احتدم بينهما النقاش حول هذا الموضوع. في الحديقة المقابلة للمكتبة الوطنية، سكوار اللو؟وا. هذه الحديقة كم شهدت من حوارات صاخبة تارة وهادئة طوراً. على هدير المياه المتدفقة من أفواه الأسماك والرؤوس الرجالية والنسائية. هذا الهدير الذي يذكّرها من بعيد بهدير نهر «الصلاة» في الوادي العميق أثناء فصل الشتاء. في وسط الحديقة، تنتصب أربعة تماثيل أنثوية ممثلة للأنهار الفرنسية الأربعة، اللوار والسون والسين والغارون، محاطة بأشجار الكستناء البرية الوارفة الظلال بخضرتها الفاقعة، على مقعد نصفه في الظل والنصف الآخر تسطع عليه شمس حزيران/ يونيو النادرة ولكن الحادة.
ـ لا أفهم! أنتم من بلاد الشمس ولا تطيقون القعود في الشمس لحظات، بينما نحن نكاد لا نعرف الشمس إلّا نادراً وبإمكاننا أن نحتملها ساعات!