كتاب " الدائرة المربعة " ، تأليف راتب الحوراني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الدائرة المربعة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الدائرة المربعة
ـ حتى الأفارقة لا يحتملون القعود في الشمس أكثر من ثوان! ربما يتعلق الأمر بطبيعة البشرة التي تمتص كمية أكبر أو أقل من الفوتونات الشمسية وبالتالي تسخن بسرعة أو ببطء.
ـ لعل الطبيعة قد أخطأت في توزيع البشرات على البشر.
ـ أو لعلها بذلك تحميهم من خطر التعرض المباشر لأشعة الشمس الحادة.
ـ ربما. لنعد إلى خرافنا، كما يقول الفرنسيون، إلى موضوعنا. أظن أن هذا الذي تتحدثين عنه ليس بالضرورة حباً، إنما هو زواج، زواج تقليدي بكل معنى الكلمة وإن لم يتم عقده أمام سلطة رسمية، دينية كانت أو مدنية، وغالباً ما يكون الزواج مقبرة الحب وتنتهي العلاقة الإنسانية النبيلة بين شخصين إلى علاقة زوجية شكلية فارغة من أي محتوى إيجابي، لا يتجاوز محتواها المظاهر الخارجية أو المسؤولية المشتركة لطرفي العلاقة تجاه الآخرين من أولاد أو أهل أو أصحاب أو المجتمع الخارجي عموماً.
ـ لم تفهمني! إنما قصدت علاقة إنسانية حميمة بين كائنين شفافين الواحد منهما تجاه الآخر، قد نسميها علاقة زوجية بمعنى كلمة «كوبل» الفرنسية، ولكن بدون أي قيد خارجي من نوع رقابة مؤسسة دينية أو مدنية كما هو الأمر في الزواج الديني والمدني على السواء، أي بدون تدخل طرف ثالث في العلاقة الثنائية، فتبقى العلاقة حرة بعيدة عن أي عقد شكلي يمثل سلطة خارجية، لنقل إنه اتحاد حر.
ـ أفهمك جيداً، هذا الاتحاد الحر الذي تتحدثين عنه، هل لك أن تحدديه بشيء من التفصيل والوضوح؟
ـ حسب تصوري، يجمع هذا الاتحاد بين شخصين كلاهما حر في اختياره للآخر، يدخلان في شراكة حياتية تشمل كل جوانب الحياة، المادية منها، الاقتصادية إذا شئنا، والجنسية طبعاً والنفسية والفكرية، ومفتوحة أيضاً على المستقبل بما يعنيه من مشاريع إنجاب أو تبني أولاد وتربيتهم وغير ذلك...
ـ مهلاً، مهلاً، إنك تقدمين تعريفاً كاملاً لمؤسسة بكل معنى الكلمة ولا أجد تسمية أخرى لهذه المؤسسة غير «العائلة». ومصير هذه المؤسسة كمصير كل المؤسسات أن تتحول عاجلاً أم آجلاً، مهما كانت نوايا مؤسسيها، إلى أداة لخدمة طرف من الأطراف على حساب الأطراف الأخرى، وبالتالي يتعين على هذه الأطراف إما التنازل والخضوع من أجل إنقاذ المؤسسة أو التمرد والصراع من أجل الاستقلال عنها، وهذا يعني هدم المؤسسة. أليس هذا ما نلاحظه في مجتمعاتنا المعاصرة على اختلاف مشاربها، عداك عن العصور الغابرة؟
ـ بل يمكننا أن نبني مؤسسة قائمة على المساواة والاحترام المتبادل بين الأطراف المشاركة وخاصة إذا كان عددهم لا يزيد عن اثنين.
ـ هذا حلم البشرية منذ أن كانت، وما زال يراودها جيلاً بعد جيل، وسوف يحتاج إلى العديد من الأجيال قبل أن يتحقق على هذا المستوى أو ذاك. لا شك أن هناك مجتمعات تقترب من هذا المثال الأعلى أكثر من غيرها ولكنها ما زالت بعيدة جداً والأرجح أن اقترابها من المثال لا يتم إلّا بمقدار اقتراب المثال نفسه من حركة الواقع.
ـ ماذا تقصد بحركة الواقع؟ ألسنا نحن هذا الواقع بعينه؟ أليست حركة الواقع هي حركتنا نحن نحو ما نتطلع إليه، نحو ما نراه مناسباً لنا؟
ـ بالطبع! هذا صحيح! وكل منا يتحرك، على ما أرى، نحو المزيد من استقلالية الفرد. فلا يقبل أحدنا التنازل عن جزء من استقلاليته أو من حريته الشخصية إلّا اضطراراً وحفاظاً على مصلحة شخصية أخرى قد تكون مادية أو غير مادية، أو عن ضعف أو عن خوف.
ـ ليكن عن ضعف أو خوف، فالمؤسسة من شأنها أن تحمي الضعفاء. من منا لا يعرف الضعف ولا الخوف؟ ألسنا جميعاً بحاجة إلى مؤسسة تحمينا؟
ـ أنت على حق، كلنا بحاجة إلى مؤسسة بل إلى مؤسسات تحمينا ولا أحد منا يعيش خارج المؤسسات، إننا بحاجة إلى حد أدنى، إلى أقل ما يمكن من المؤسسات وإلى ما لا يقل عنها من المؤسسات المضادة لتحمينا من تلك، ولسنا بحاجة إلى المزيد من المؤسسات. في خضم هذه المؤسسات لا بد للفرد من قاعدة آمنة، مساحة مهما كانت ضيقة وصغيرة، فسحة يشعر فيها بحريته المطلقة على غرار تلك الفسحة الداخلية التي يتمتع بها كل منا في قوى مخيّلته ومفكرته.
ـ ها نحن نصل إلى بداية اتفاق في الرأي. هذه القاعدة التي نتحدث عنها والتي لا بد منها لكل فرد منا هي عينها المؤسسة أو الوحدة الصغرى القائمة على الاتحاد الحر الذي أعنيه.
ـ لدي شعور عميق بأننا متفقان في الرأي ولكن اختلافنا يدور على الأرجح حول المصطلح وربما التعريف الدقيق لهذا المصطلح، على الأقل صار من الواضح أنك تصرين على استخدام كلمة مؤسسة أو اتحاد بينما أنا تخيفني هذه الكلمة وتلك على السواء. أنا واثق من الوصول إلى المزيد من الوضوح والاتفاق لاحقاً.
ـ وأنا أيضاً متفائلة. لن نحسم هذا النقاش اليوم، بل من الأفضل ألّا نحسمه حتى نعود إليه وإلى المتعة نفسها التي أتاحها لي.
ـ ولي أيضاً.
بشيء من المجاملة والحرص على «العلاقة الناشئة» بالنسبة لروبير وعلى نواة «المؤسسة» المقبلة في نظر سميرة وأفق كل منهما على تعليق النقاش وإبقاء الحوار مفتوحاً كما يعلق القاضي جلسة المحكمة بانتظار المزيد من الأدلة. فقد أحس كلاهما بالحاجة إلى إنضاج رأيه في الموضوع، خاصة وأن الموضوع يطرح لأول مرة وبكثير من الارتجال، وعلى أمل أن يقنع كل منهما الآخر في المرة القادمة.
* * *
تحاشى روبير في بداية علاقتهما أن يدعوها إلى شقته الواقعة على طرف باريس الجنوبي قرب محطة مترو «بورت دورليان» على خط واحد مع محطة «السان ميشال» القريبة من شقة سميرة.
هكذا الفرنسي لا يدعوك إلى بيته قبل أن تدعوه.
ولكن هنا الأمر يختلف. إنه يفكر بدعوتها بل ويحلم بلقاء حميم يجمعه بها لا في مقهى ولا في حديقة. دعاها أول الأمر إلى السينما، ودعته بدورها. شاهدا معاً أكثر من فيلم قبل أن يحين موعد الفيلم الذي لن يشاهده أحد غيرهما ولن يمثل فيه أحد غيرهما. حتى تبادل القبلة على الطريقة الباريسية عند اللقاء وعند الوداع أربع مرات، مرتين على كل خد، كانا يستهيبانه وكأن الذي بينهما أقوى وأعمق من أن يبتذل في قبلة روتينية غالباً ما يطلقها الباريسيون في الهواء أكثر مما على الخد.
وسميرة أيضاً تشتاق إلى ذلك اللقاء ومستعدة لقبول الدعوة. ولكنها تتردد في المبادرة وتخشى أموراً عديدة. علاقتها السابقة مع جميلة قد تعطل عليها صفو اللقاء. ثم احتمالات المستقبل التي لا تدعوها للطمأنينة. وماذا عن مستقبل العلاقة بعد أن تنهي دراستها؟