كتاب " الدائرة المربعة " ، تأليف راتب الحوراني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الدائرة المربعة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الدائرة المربعة
وأحس روبير بهذه الذبذبة في أفكار سميرة أكثر مما في مشاعرها واعتبرها طبيعية ولم يكن ملحاحاً في تلميحاته.
إلى أن جاء يوم تناولا فيه العشاء في مطعم هندي، «ماهارانا بالاس»، غير بعيد عن المكتبة، قرب البورصة، في شارع صغير هادىء، شارع «سان مارك» (القديس مرقص). بعد العشاء انطلقا مشياً على الأقدام عبر الشوارع الصغيرة المؤدية إلى حديقة «القصر الملكي» القريبة من اللو؟ر ومنها إلى الشاتلي والسان ميشال مروراً بالجسر الجديد (بون نوف) وهو أقدم جسور باريس. وتجاذبا أطراف الحديث في عدة مواضيع قبل أن يصلا إلى موضوع جميلة.
لكثرة ما سمع روبير اسم جميلة خلال فترة تقارب الشهرين من معرفته بسميرة، لم يعد يكتم رغبته في معرفة كل شيء عن علاقة هاتين الصديقتين:
ـ أعتقد أنّ صداقتك مع جميلة كانت صداقة حقيقية.
ـ لو كانت حقيقية لما انتهت. لكنها كانت كبيرة فعلاً.
ـ لا أدري، هل بإمكاني أن أعوض خسارتك هذه بصداقتي لك؟
ـ تحدثني نفسي بأنّ صداقتك لي وصداقتي لك، أي صداقتنا، ستتجاوز بكثير تلك التي جمعتني بجميلة.
ـ هذا ما أتمناه أنا أيضاً.
نزولاً عند رغبة روبير هذه لم تمانع سميرة في المصارحة التامة عن علاقتها السابقة بجميلة وكأنها تريد أن ترمي بهذا العبء الذي تحمله على كاهلها من مجرد تذكرها لهذه العلاقة. تريد أن ترمي هذا الحمل في مجرى السين وتستريح. وقد شجعها على البوح بأسرار هذه العلاقة السابقة إحساسها بتوطد علاقتها الراهنة بروبير وثقتها بجدارته وأمانته على أسرارها.
على طول الطريق المؤدي إلى بول؟ار السان ميشال والوقفات الطويلة أحياناً، وخاصة على «الجسر الجديد» وجسر «السان ميشال» الواصلين بين جزيرة «السيتي» والضفتين اليمنى واليسرى للسين، استرسلت سميرة في الحديث عن صداقتها مع جميلة وروبير يصغي إليها باهتمام. وعندما وصلا إلى الرقم 37 حيث شقة سميرة كان الحديث قد بدأ يمس الجانب الحميم من العلاقة وبدا على وجه سميرة الانفعال والحماس. تابعت حديثها وهي تدخل باب المبنى وتوعز إلى روبير بالدخول دون سؤال أو اقتراح حتى خيّل إليه وكأنه جميلة أو كأن سميرة ترى فيه جميلة فلم يبد أي اعتراض. صعدا الدرج حتى الطابق الثاني.
ـ سنتناول كأساً من الشاي، ما رأيك؟ (وهي تفتح باب شقتها).
ـ بكل سرور!
ـ تفضل، أدخل.
ـ لا، بعدك.
دخلت سميرة ودخل وراءها روبير. لأول مرة يدخل إلى شقة سميرة. انتابه شعور غريب بالغبطة يخالطه بعض الحذر إذ تذكر علاقته السابقة التي عانى منها قبل أن يتمكن من الخلاص. لم تنتبه سميرة إلى أنّ روبير موجود في شقتها للمرة الأولى وظلت مستغرقة في حديثها عن جميلة، وهي تملأ الابريق المخصص للشاي ماءً وتضعه على النار، حتى بادرها مبدياً إعجابه:
ـ يا للأناقة والترتيب! لن أجرؤ على دعوتك إلى شقتي أبداً.
ـ المعذرة، لم أرتب شيئاً، إذ لم أتوقع أن نأتي إلى هنا معاً. على كل حال لا يوجد الكثير من الأثاث للترتيب، فهذه الغرفة كما ترى بمثابة صالون ومكتب وغرفة جلوس، فيها هذا المقعد الذي يتسع لشخصين أو لثلاثة عند الضرورة النادرة والطاولة بما عليها من كتب وأوراق وحولها أربعة كراس وهذه خزانة الكتب. لا يبقى مجال للحركة كما ترى.
ـ أرى، أرى، هذه مشكلة الشقق الباريسية إجمالاً. بل إنها فسيحة غرفتك هذه، ولا شك أن المقعد يتحول إلى سرير للنوم في الليل.
ـ من حسن الحظ أنّ هناك غرفة أخرى للنوم ولكن لا تزيد مساحتها عن مساحة هذه. تعال وألق نظرة عليها.
دفعت سميرة باب غرفة النوم التي تتسع بالكاد لسريرين وخزانة للثياب. المسافة بين السريرين لا تزيد عن نصف متر.
ـ أنت تعيشين في قصر! لا شك أنك أميرة من أميرات النفط.
ـ لست أميرة ولكنني لا أشكو العوز و «الحمد لله» كما نقول بالعربية. لم أخبرك أنّ والدي اشترى لي هذه الشقة لأسكن فيها وشقة أخرى مماثلة أؤجرها وأستفيد من إيجارها بمثابة منحتي الدراسية. وهذا سريرك، عفواً! إنما أقصد سرير جميلة.
«يا لها من زلة لسان» علا وجنتيها الاحمرار ولم تدر كيف تمحي هذه الزلقة. ولكن روبير قابل الموقف بالمزاح والضحك:
ـ أرجوك، أنا لست جميلة.
«زلة لسان، ولكنها تفصح ما في الوعي أو في اللاوعي».
ـ صحيح أنك لست جميلة، ولكنك «جميلة»، أنت «جميلي».
لم يفهم روبير لعب سميرة بالكلمات العربية فشرحت له وضحكت. ضحك لها بدوره وأحس بشيء من الخجل وسارع يرد لها المجاملة محاولاً الاستفادة من درسه الأول في اللغة العربية:
ـ وأنت جميلة، جميلتي. ولكن لا أريدك أن تكوني جميلتي مثلما كانت جميلتك السابقة لك. أعني ما أعني.
ـ فهمتك. اطمئن، أنا لست جميلة، أنا سميرة، سميرتك.
وشرحت له معنى السمر والسمير بالعربية فأعجبه ذلك وعلق قائلاً:
ـ لغتكم العربية جميلة. الأسماء فيها شاعرية. حتى الكلمات العادية عندما نسمعها دون أن نفهمها لها موسيقى عذبة. وخاصة من فمك يا سميرتي، يا شهرزادي. فهاتي من حديثك المباح وزيدي فيه حتى الصباح.
ضحكا ملء جوارحهما ومدت يدها نحو يده دليل موافقة ورضى في حركة لا يفهمها الأوروبيون حقاً، أما روبير فصار يفهمها على الرغم من أنه لا يقوم بها بعفويته. ولكنه هذه المرة فهمها بأكثر من معناها العادي. لم ينتظر ليتأكد من صحة ما فهم بل أخذ على عاتقه مسؤولية فهمه واحتفظ بيد سميرة بين كلتا يديه يتحسس بشرتها الناعمة الملمس، الدافئة، الحنطاوية. وأحس في بشرتها شيئاً آخر غير الدفء والنعومة، شيئاً آخر لم يستطع أن يحدده كما لم يستطع مقاومته. كأنه وقع في حقل جاذبية لم يعرفها من قبل، جاذبية تشده من يديه وتأخذ بكليته برفق إلى هاوية سحيقة.
هذه البشرة، تنضح رقة وجمالاً. تبث نداءات. يسمعها بكل حواسه.
لم تسحب سميرة يدها وتركتها بين يديه وأخذتها رعشة أشبه بالقشعريرة. انتابها شعور بالخوف، من نفسها أكثر مما من روبير. بالخوف من المجهول ورغبة لذيذة في اكتشاف هذا العالم المجهول وهي لأول مرة تسلم يدها هكذا لرجل. ها هو يطلب يدها وتسلمه إياها بكل رضى. لمعت في ذهنها صور الفرح الذي كان يغمرها وهي طفلة تشاهد الأعراس في القرية، البعيدة عنها الآن، الواقعة على كتف واد سحيق، ما بين جبل «العزّ» الذي يناطح السحاب ونهر «الصلاة» الذي يكاد يجري تحت مستوى سطح البحر. التقت عيناها بعينيه. تاهت في عمق زرقتهما السماوية، وسمعت صوت أم كلثوم، قادماً إلى مسمعها من إحدى ليالي صيف العروبة النابض الصاخب، يردد:
«هات عينيك تسرح في دنيتهم عينيّ، هات أيديك ترتاح للمستهم أيديّ...».