كتاب " الدائرة المربعة " ، تأليف راتب الحوراني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الدائرة المربعة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الدائرة المربعة
في مثل هذه الأمسيات يظن المشاهد أنه في مهرجان عالمي كبير، برج بابل، يسمع من كل اللهجات واللغات. اللغة العربية بلهجاتها المختلفة لها حضور قوي إن لم يكن الأقوى. والأزياء كذلك.
توقفا أمام محل «فيرجين ميغا ستور» المتخصص في بيع كل ما له علاقة بالموسيقى، أشرطة، أسطوانات، أجهزة تسجيل. يعج بالزوار، وخاصة الناشئة المراهقين والمراهقات.
ـ أخيراً ربح فيرجين معركته ضد السلطات وصار يفتح أبوابه يوم الأحد وطيلة أيام الأسبوع حتى ساعة متأخرة في الليل.
ـ أي معركة؟
ـ عندنا قانون يمنع المحلات التجارية، ما عدا بعض الاستثناءات، من العمل يوم الأحد. ولا شك أن هذا القانون في حينه كان انتصاراً للحركة العمالية وضمانة للعطلة الأسبوعية الإلزامية.
ـ لهذا السبب تقفل المكتبة الوطنية أبوابها يوم الأحد؟
ـ تماماً. ولكن فيرجين فتح يوم الأحد وتحدى القانون بحجة أنه يبيع منتجات ثقافية على غرار المتاحف مثلاً، والعطلة الأسبوعية للعاملين طيلة الأسبوع هي الفرصة الوحيدة للاهتمام بالثقافة. وقامت القيامة ضده.
المفارقة في هذه المعركة أن خصوم العمل يوم الأحد ليسوا فقط من أتباع العقلية القديمة ذات الصلة بالموقف الديني الكنسي، بل ومن النقابات التي تعتبر نفسها تقدمية ويسارية.
في هذا العصر، عصر ملايين العاطلين عن العمل، تعترض النقابات على العمل يوم الأحد علماً بأن العطلة الأسبوعية مضمونة للعمال بموجب قانون العمل الذي يثبت الحد الأقصى لساعات العمل في الأسبوع عند أربعين، أو خمس وثلاثين ساعة حسب القانون الجديد، ويضمن بذلك يومي عطلة إسبوعياً لكل عامل. هناك الآلاف من العاطلين عن العمل أو من الطلاب الذين يتمنون العمل ليوم واحد أو يومين في الأسبوع ويفضلون أن يكون ذلك يومي السبت والأحد. عداك عن أن كثيرين من مستهلكي الثقافة لا يجدون غير يوم الأحد لتعاطي الثقافة.
ـ أنا أتمنى أن تكون المكتبة الوطنية والمكتبات البلدية مفتوحة يوم الأحد والأعياد الرسمية.
ـ البلدان الأخرى تجازوت هذه التضييقات. ولكن هذا النسق الفرنسي القديم الثقيل الوطأة يلقي بوزنه أمام عجلات التطور والتجديد. في كل مرة لا بد من ثورة وثورة مضادة وخسائر وضحايا.
تابعا المسير، وتفادياً للازدحام الشديد على الجهة اليمنى انتقلا إلى الجهة الأخرى من الجادة حيث يوجد مقهى الفوكيتس.
ـ هذه قضية أخرى، قضية الفوكيتس. كان على وشك أن يشتريه ثري عربي فوقعت ضجة واحتجاجات وتدخلت وزارة الثقافة لتمنع عملية البيع، وتصنّف المقهى ضمن التراث الثقافي الوطني لارتباطه بأسماء مشاهير فرنسيين في عالم الثقافة كانوا يرتادونه أو ما زالوا.
لم تعلق سميرة على هذه القضية. فهي لا تدري إذا ما كان موقف السلطات الفرنسية سليماً أو خاطئاً. ولكن بالنسبة لمن؟ ومن أية زاوية؟ اقتصادية؟ ثقافية؟
ـ لا أدري. هذه مسألة لا تهمني إطلاقاً. لنبحث عن مكان متواضع نسبياً نأكل فيه وجبة خفيفة.
ـ ما رأيك بالماكدونالد؟
ـ الماكدونالد، ولم لا؟
ـ الماكدونالد أيضاً. تثور ثائرة الكثير من الفرنسيين ضد هذا النمط من «الثقافة الغذائية» على الطريقة الأميركية. ولكنه يؤدي خدمة لملايين من المستهلكين في الوقت الذي تكون فيه المطاعم الأخرى مقفلة أبوابها ما بين الثالثة بعد الظهر والثامنة مساء أو بعد العاشرة ليلاً. وعلى الرغم من تزايد عدد هذه المطاعم، أشباه الماكدونالد، برغر كينغ، كويك وغيرها، فهي مكتظة بالزبائن في أي ساعة من أوقات النهار والليل. وخلافاً لمحلات السندويش الأخرى وجبات الماكدونالد متنوعة، سمك، دجاج، لحم بقر، بطاطا، عصير برتقال، كوكا، حلويات عدة.
ـ نمشي إلى الماكدونالد، أنا أحب البطاطا المقلية، ولكن قل لي قبل أن نمشي كم يدفعون لك من العمولة؟
أعجبه تعليقها وضحكا طويلاً قبل أن يضيف.
ـ ما زال ينقصنا الكثير من المرونة في التعاطي مع العصر، السرعة، التنويع، توظيف الطاقات المتاحة... كم من باحث فرنسي لم يجد عملاً هنا غادر إلى الولايات المتحدة حيث يعمل بنجاح. لم نسمع أن باحثاً أميركياً واحداً غادر الولايات المتحدة ليعمل في فرنسا.
ـ أنتم أيضاً تعانون من هجرة الأدمغة؟
ـ هجرة أدمغة، بطالة أدمغة، فساد أدمغة، تكلس أدمغة، كل مشاكل الأدمغة.
ـ ومع ذلك أنا أفضل العيش في فرنسا على أميركا. لم تعجبني الحياة في الولايات المتحدة. أظن أن الحياة الثقافية هنا أغنى. ربما أميركا لرجال الأعمال، للبزنس.
ـ هذا رأيي أيضاً. ولكن الثقافة تخضع بدورها لضرورات العصر ولا بد لها من التكيف مع هذه الضرورات.
ـ العولمة، العولمة يا صاح!
* * *