أنت هنا

قراءة كتاب الأب والابن والروح التائهة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الأب والابن والروح التائهة

الأب والابن والروح التائهة

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: علاء حليحل
الصفحة رقم: 2
"أبوك تعبان جدًا"، قالت الأخت ماريا، في أذن الأب يوحنا.
 
تظاهر الأب يوحنا بأنه لم يسمعها. كان يتلو ما تيسر من رسالة يوحنا على مسامع أبناء رعيته المخلصين، وكانت شمسُ هذا الأحدِ الدافئ تنجحُ من مرةٍ إلى أخرى في إلقاء سربٍ من أشعتها البيضاء على رؤوس الجالسين الخاشعين، حين تنجحُ حزمة من ريحِ تشرينَ الأولَ الباردةِ في التغلب على الشبابيك الخشبية الكبيرة، التي كانت ترتفع بهدوءٍ من أرضية الكنيسة الى ما قبل السقف بقليل، وتزيحُ الستارةَ الزرقاءَ الداكنة بعضًا من الإزاحة. لم يودّ الأب يوحنا أن يعكّر صفوَ هذا المشهد الرائع، من الطمأنينة والخشوع والقدسية، بالتفكير في والده المُسنّ الذي يودّع سنتَه السبعين بالمرض والألم. حتى الجملة اليونانية التي انسكبت في أذنه اليمنى بدت له غريبةً فجأة، وكأنه لم يتعلم هذه اللغة الشرقية ويحفظها منذ الصغر، ليتنسى له التدرّج في سلم الكهنوت في الكنيسة الأرثوذكسية في الديار المقدسة. بدت له جملة الأخت ماريا بعيدةً وغريبةً وربما فظةً، قياسًا بما كان يشعر به في تلك اللحظة. فتجاهلها.
 
ترك الأب يوحنا الأخت ماريا تنزل من على المنصة المرتفعة بثلاث درجات عن مسطبة الكنيسة المتواضعة، ولم ينظر إليها وهي تنسحب إلى الخلف لتجلسَ إلى جانبِ الشّيخ علي، الذي كان يجلس في المقعد الأخير في الكنيسة إلى جانب الباب. بعد دقائق فقط رأى الأب يوحنا الشيخ علي جالسًا في مؤخرة الكنيسة، ينظر إليه بهدوء ويبتسم بحزن. بالنسبة للأب يوحنا ولرواد الكنيسة في القرية، لم يكن تواجد الشيخ علي في الكنيسة أيام الآحاد بالأمر المستهجن أو الغريب. كان الشيخ علي يواظب من مرة إلى أخرى على حضور قداس الأحد كله أو بعضه على الأقل، والاستماع إلى كرزةِ الأب يوحنا، التي كانت تجتذبه وتثير لديه العديد من الأفكار، التي كان يحفظها ويطوّرها في عقله إلى حين الملتقى اليومي في مكتبة القرية، مع الأب يوحنا، كل يوم في التاسعة مساءً، حين تخلد القرية للنوم. نظر الأب يوحنا إلى الشيخ علي. رأى أيضًا الأخت ماريا تجلس إلى جانبه وتنظر إليه بحزن هي أيضًا. لم تستطِع الأخت ماريا يومًا أن تخفي مشاعرها. عيناها تفضحانها دائمًا. لم يترك الحزن في عينيها ونظرة الشيخ علي مجالا للشك. حاول الأب يوحنا ألا يفكر بما فهمه في تلك اللحظة، فاستمرّ في كرزته التي أوشك على نهايتها:
 
"... ويكون أن يأتيكم من الخارج رسولٌ كذابٌ، يحمل البضاعة الزائفة، والكنوز الزائلة، فلا تصدقوه. ولا تعبثوا معه أو يعبث معكم. قولوا إن الله لكم، وأنتم لله، لا تبددوا أيمانكم على الزيف والبهتان، وصلّوا للمسيح الرب، إبن الله، لكي يطيل من جَلَدِكم، وأحبوا بعضكم بعضا، وأحبوا أعداءكم مهما حصل، كما أحبنا المصلوب من أجلنا..."
 
... حتى الأطفال الذين في الخلف أحسُّوا بتكسّر صوت الأب يوحنا وتهدّجه. لم يبقَ في الكنيسة أحدٌ إلا ورفع رأسَه وأخذ ينظر إلى الأب يوحنا، وهو يصارع دموعَه ويحاول ألا يغصَّ في البكاء. كان بين الفينة والأخرى ينظر إلى الشيخ علي في الخلف، ويزداد انفعاله بعد أن يرى دموع الشيخ وهي تنحدر على لحيته الكثيفة البيضاء، فيرفع عينيه إلى السقف وينظر إلى الرسوم الدينية التي رسمها أحد طلاب الفن من القرية الذي هاجر إلى الخارج. كان يحبُّ أكثرَ ما يحبّ في هذه الرسومات ذلك المقطع في الزاوية البعيدة عند المدخل، الذي يجمع مريم وطفلها وهي تنظر إلى ولدها بحبٍ وبعطفٍ. كانت كلماته الأخيرة تخرج من فمه بصعوبة، ولم يفهم الجمعُ المنذهلُ إلا آخرَ الكلماتِ التي قالها:
 
".. يا أبتاه في يديكَ أستودع روحي!"
 
_________________________
 
(1) القنطش هو بيت الكاهن الذي يكون ملاصقًا للكنيسة عادةً، ويكون من غرفة واحدة على الأغلب، معدة للنوم والعبادة.

الصفحات