أنت هنا
قراءة كتاب الأب والابن والروح التائهة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
غريبة هي العلاقة بين المطر وبين الجنازات. ذلك الرابط الخفي العصي على الفهم بين نثر بذور الحياة الجديدة بأمرٍ غامضٍ، وبين اقتطافِ الحياة القديمة، بأمر غامض أيضًا. الأشجار المبتلة المحيطة بالمقبرة، التي ترشح منها نقاط المطر، باضطراب وعشوائية، تفاجئ العديدين من الواقفين تحتها. وقف جمال، إبن الشيخ علي، الذي عاد قبل يومين من جامعة الأزهر في القاهرة، حيث درس الشريعة، وقف تحت شجرة السّرو المُطلة على الفستقيّة وراقب كيف يُدخلون النعش إلى الفستقية. فجأةً وقعت عليه نقطة ماء كبيرة من الشجرة التي ظللته فملأت تجويف عينه اليسرى بالماء. حين مدّ يده لمسح الماء عن وجهه، بادره أحد الرجال الواقفين تحته بـ: "كُلّنا لها". وجد جمال نفسه يتمتم: "الله يرحمه". بالكاد سمعها هو بنفسه. لم يكن جمال يعتقد أن الله سيرحم أبا حنا. فمن غير المعقول أن يرحم الله جلّ جلاله مُشركًا آمن طيلة عمره بأن الله، والعياذ بالله، أنجب ابنًا من آدميةٍ، ثم قام هذا الابن من بين الأموات. أكثر ما آلم جمال في تلك اللحظة أن والده، الشيخ علي، كان يبكي على هذا المشرك الكافر كالطفل الصغير.
خرج الجميع من المقبرة وتوجهوا إلى بيوتهم، قبل أن يتجددَ المطرُ ثانيةً. بقي جمال وحده تحتَ الشجرة. من بعيد كان الناس، من المسلمين والمسيحيين على السواء، يرون الشيخ جمال الصغير، بجلبابه وعمامته البيضاوين، يمسح دموعه وهو واقف تحت شجرة السرو ويطل على والده الشيخ علي وهو يبكي عند مدخل الفستقية. كانوا يرونه ويتمتمون فيما بينهم بكلماتٍ تشي بعُمق تأثرهم من الروابط العميقة التي تربط عائلة الشيخ بعائلة الخوري. لم يعرف أحدٌ أن الشيخَ الشابَ كان يديرُ برأسِه جملة "باسم الله والروح القدس" باكيًا، وهو غير مصدق أن أباه، الشيخ المؤمن، قد انحدر إلى مثل هذا الدرك من مُهادنة الكفار والمُشركين!
______________________________
(2) المخدر بالعامية الجليلية هو حارس كروم وحقول القرية الساهر على أمنها وحمايتها من الغزاة ومن المتطفلين على أنواعهم. وقد اشتهر غالبية المُخدّرين بقسوتهم وغلظة قلوبهم نتيجة حرصهم على حراسة أملاك أهل القرية من الطامعين بها.
(3) الفستقية هي غرفة كبيرة تُقام في مقابر المسيحيين، لاحتواء نعوش الميتين.