أنت هنا
قراءة كتاب الأب والابن والروح التائهة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 3
2 | الابن
لم يستطعِ المطرُ الشديدُ أن يمنع سكان القرية من الخروج عن بكرة أبيهم لتوديع أبي حنا، والد الأب يوحنا. دلف الجمع الغفير من وراء النعش المرفوع على الأكفّ بصمتٍ وخفورٍ. وحتى الأطفال والأولاد الذين ساروا في الخلف، وكانوا يقفزون من مرة إلى أخرى ليمسكوا بغصن من شجرة لوز أو خوخ، فيكسّرونه ويصنعون منه قضيبًا رفيعًا يستخدمونه سلاحًا في ألعابهم الحربجية فيما بعد؛ حتى هم قاموا بذلك بهدوءٍ ومن دون صيحاتِهم العاليةِ المُعتادةِ في مثل هذه الممارسة، خصوصًا حين ينجح أحدهم في كسر غصنٍ كبيرٍ قد يحسم المعركة بينهم فيما بعد، نهائيًا. قد تكون المفارقة هي التي جعلتهم يُمسكُون عن الصراخ، وربما الخوف الكمين الذي لم يبرح يستولي عليهم، من المُخدِّر أبي حنا، حتى وهو في النعش محمولا إلى مثواه الأخير. كان المُخدر (2) أبو حنا كابوسَهم المرعبَ، لأنّه كان يحمي حقولَ وكرومَ القرية من عبثِهم المُدمّر، فكان الكبار يحبونه لإخلاصِه في حمايةِ أملاكِهم، والصغارُ يكرهونه لنفس السبب.
"الدنيا تبكي عليه"، قالت الأخت ماريا لعائشة، زوجة الشيخ علي، التي كانت تسير إلى جانبها في القسم الخلفي من الجنازة، حيث النساء. هزت عائشة رأسها موافقة، ولم تلتفت إلى الأخت ماريا ولو للحظة. كانت تسير وكأنها وحدها، لا تنظر إلى أحدٍ ولا تعير أحدًا أيّ اهتمام- وخاصةً للأخت ماريا. مسحت عائشة الدمع المختلط بماء المطر عن وجهها. من يرى الاثنتين معًا لا يمكنه ألا يعتقد أنهما أختان، على الرغم من ثياب الراهبةِ السوداءِ التي ترتديها ماريا منذ الأزل، والثياب المحتشمة التي ترتديها عائشة منذ أن تاب زوجها الشيخ علي إلى الله و"طلب" منها من دون كلامٍ صريحٍ أن ترتدي الحجاب والثياب الطويلة المحتشمة.
كان الشباب في مقدمة الجنازة يحملون النعش ويتوالون فيما بينهم لئلا يتعبوا بسرعة. في كل الحالات، لم يكن المخدّر أبو حنا ثقيلا في حياته، وعلى الأخص بعد أن دهمَه المرض "العاطل" طيلة السنة الأخيرة. لم يترك المرض عضوًا فيه إلا وضربه: الكليتيْن، الرئتيْن، القلب، البنكرياس، العينيْن. لا أحدَ في القرية يعرف كيف يداوون هذا المرض، ولا أحد يعرف أيضًا أن أحدًا في العالم لا يعرف كيف يداوون هذا المرض. كان الدكتور جورج، طبيب القرية، يكتفي بمتابعة حالة أبي حنا وإيصائه بأكل المسلوق والابتعاد عن الحزن. غنيٌ عن القول إنّ أبي حنا نجح في تنفيذ الوصية الأولى فقط. وقد ردّدتْ مُسنّات القرية في الجهة الخلفية من الجنازة: "الحزن قتله". وإحداهنّ غالت في التعبير عن الحزن الداهم فقالت بصمت لئلا يسمعها أحد: "الله يلعنك يا إم حنا"!! لم يستطع أحد أن يتفادى سماع هذه الجملة، ولم يستطع أحدٌ أيضًا أن يعترض عليها!