أنت هنا
قراءة كتاب الأب والابن والروح التائهة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 6
3 | الكتب
بعد أسبوعٍ كان الأب يوحنا والشيخ علي يجلسان كعادتيهما في كل ليلة في مكتبة القرية. كانت هذه ظاهرة غير عادية أن يكون في القرى في تلك الأزمنة البعيدة مكتبة عمومية. بالكاد كان هناك "طبيب" في القرية، وربما بعضٌ من الذين يعرفون فكّ الحروف وقراءة الرسائل للمختار. لذلك، بدا وجود مكتبة في قرية لا يتجاوز عدد القراء فيها الخمسة أو العشرة في أحسن تقدير، أمرًا باعثًا على الاستهجان بعض الشيء. ولكن الحقيقة كانت غير ذلك تمامًا. فقد كانت إقامة المكتبة جهدًا خاصًا وكبيرًا بذله الأب يوحنا والشيخ علي خلال سنوات طويلة. خلال هذه السنوات بعث الاثنان بمئات الرسائل، كلٌ إلى معارفه والمسؤولين عنه، في البطركية وإلى مفتي الديار المقدسة، وإلى الكثير الكثير من المعارف الأغنياء وغير الاغنياء. كانت كل الرسائل تهيب بالمعارف بأن يتبرعوا بالنقد أو بالكتب القديمة لإقامة مكتبة للقرية لمحو الجهل وتبديد ظلامه، أملاً في إنشاء جيل جديد من القراء والمتعلمين يأخذ بيد الناس في الخروج إلى النور، من غياهب الديجور. بعثا وبعثا وبعثا إلى أن ملّ الناس من رسائلهما، فبدأت الكتب بالوصول.
كان شفيق، صاحب البقالة عند مدخل القرية، أولَ من رأى البغلين الكبيرين المحمّلين برزمات كبيرة من الكتب. بعد أن تيقّن مما تراه عيناه أقفل باب بقالته وهرع إلى الشوارع يصرخ وينادي:
"يا أبونا يوحنا، يا شيخ علي.. وصلت الكتب والبغال!.. وصلت الكتب والبغال!"
بعد أقل من عشر دقائق كان كل رجال القرية عند المدخل يشرئبّون بأعناقهم ليروا البغليْن المُحمّلين بالكتب، وكانت نساء القرية يملأن الشبابيك وبوابات البيوت، والأطفال يروحون ويجيئون أمام الرجال وفي ساحات البيوت ويغنون مُصفقين:
"أهلا بِلِبْغال.. أهلا بِلِبْغال".
وحدهما الشيخ علي والأب يوحنا كانا يقفان في صمت وحيرة وتريّب عند مدخل القرية، وكانت أعصابهما مشدودة جدًا. وحدهما كانا يفكران في هوية المرسل وطبيعة الكتب التي على البغلين ومدى صلاحيتها أصلا. بالنسبة لهما، كانت حمولة البغليْن مصيرية لمشروعهما: إذا كانت الكتب المحمولة ذات قيمة فإن المختار سيقبل بتخصيص التبّان الكبير الذي إلى جانب الصفوف الثلاثة عند البيادر، للمكتبة؛ وإذا لم تكن فإن المشروع سيتبخر. لم يرد إلى باليهما للحظة أن المختار وغالبية القرية لا يفقهون شيئًا في الكتب، ولذلك لم يستطيعا أن يتنبأا بانطلاق صوت المختار وهو قادم على حمارته صوب الجمع، حين صاح: