أنت هنا

قراءة كتاب شمس القراميد

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
شمس القراميد

شمس القراميد

كتاب " شمس القراميد " ، تأليف محمد علي اليوسفي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 5

لكل بطل علامات تسبق مولده

في البدء كنتُ فقيراً مثل دجاجة. أسكن مع أمّي وأبي في كوخ منعزل عن القرية، فوق الممرّ الصخريّ الذي يقضمه القطار. وكنت أرى كلّ شيء فوقي: مزرعتكم القديمة قبل أن يشتري والدك مزرعة بوسكو، وكذلك القرية والجامع والغابة. ولم يكن تحتي سوى السكّة والجرف والنهر. وُلِدْتُ مهتزّاً مثل قطار. لكنني أنقل اهتزازاتي إلى طريق بريّة توصلني إليك في مزرعة بوسكو.

بقيت وحيداً بلا أخ ولا أخت، لأنّ بومةً شاهدتْ أمّي وهي تفرج ما بين ساقيها في الحقل كي تضعني. كانت البومة متضايقة في مخبئها الحجري النهاري، من أمّي، ولا تستطيع حراكاً. وكانت أمّي متضايقة من عينيْ البومة، من دون أن تستطيع التحكّم في أمرها.

تقول أمّي دائما، إذا عصيتُ لها أمراً: "اِذهبْ يا كلب، وُلِدْتَ كالفأر، أمام عينيْ بومة" فأفهم أنّ البومة طبعتني، مع أمّي، بشيء ما. غير أنني أحتار كيف أكون كلباً، وأولد فأراً، في وقت واحد. وعلى لسان أميّ: "اذهبْ يا كلب، وُلدتَ كالفأر فانقطع نسلي."

عندنا تيس، أكرهه، لأنّ أمّي تناديني باسمه، أو تعتبر رأسي كرأسه "يا رأس العتروس!" تقول لي" خرجتَ من كرشي، نطحتَ الصخرة، ها هي الأمارة على جبينك!"

والدي لا يتحدث إلا عن الأبطال. فتَرَبَّيتُ بينهم على الرغم من التحولات التي تحاول أمّي إقناعي بها.

وُلِدْتُ فأراً. وصرت كلباً. ونطحت صخرة.

ولم تنته سلسلة الحيوانات التي ربطتني بها أميّ، مع أنّه لا يوجد ما يثبت، في شجرة العائلة، أننا نتحدر من جدّ أقرب إلى جمل، أو جدة تشبه إوزّة.

أعتقد أن جدّتي لم تمت مثل إوزّة.

استيقظتْ ذات ليلة وغادرت الكوخ. "من دون أن تستيقظ" قالت أميّ. نزلت الممرّ الصخريّ، وسارت محاذية سكّة القرية باتجاه القناطر، لأنّ جدّي ناداها من قاع الجرف، فنزلت إليه مستيقظة. كان النهر آنذاك في بداية فيضانه الربيعيّ. لكنه استطاع أن يغمر الجرف قرب القنطرة الأولى. وفي الصباح وجدوا جثة جدّتي عالقة بين شجيرات الدفلى التي تنمو في مساحة صغيرة، تفصل بين الجرف وضفة النهر. ظلّ اندفاع الماء يجرّها وأغصان الدفلى تمسك بها، في حركة مستمرّة تتخلّلها بقبقة الماء من نداء جدّي، وتقصّف أصابع الدفلى الملتفّة على جسد جدّتي.

بكيتُ جدّتي مع أنني لم أعرفها. لكنني لم أقتنع بأنها غرقت مثل إوزّة ركضت وراء فأر. لو أنها انحرفت قليلاً فوق السكّة لبلغت العين الباردة التي تعيد الشباب لمن يشرب منها وهو يحلم. هكذا قال لي العينوس "جدّتك أخطأت الاتجاه".

علاقتي بالعين الباردة بدأت قبل ولادتي. قالت لي أمّي: "ما إن أملأ منها كفّي وأشرب حتى ترفس بقدميك بطني كأنك تعترض على برودة الماء. كنتَ طفلاً لا يهدأ إلّا عندما تتعب أمّه ويشتدّ خفقان قلبها. تسكت قرب القطار وعقارب الساعة، وتحرّك رأسك متفادياً بؤرة الضوء".

كيف أدركتْ ذلك؟

لقد جعلتني أعيش ما قبل ولادتي، كما فعل العينوس بعدها تماماً، عندما أمسك بي من أذني وقال لي: "اسمع بعينك." كان ذلك أثناء حضوري حلقة المستمعين إلى حكاية والدي عن سيف بن ذي يزن وأخته عاقصة. "يا ابن الفداوي لم يعد السماع يكفي." قال لي، ثم رافقني إلى الكُتَّاب.

أول مرة دخلت الكُتَّاب اصطدت سمكتين كبيرتين من النهر. كان لونهما رماديًّا. أخذتهما إلى أميّ فلم أجدها في البيت. وعندما عادت من الحقل فرحت بالسمكتين. ولم تسألني عن الكُتَّاب والمؤدّب. قلت لها ضربني بسبب "الكوميدينكم والكوميديني" أجابتْني "لكي تصير رجلاً" ثم تناولت السمكتين. نظّفت الأولى وقطعتها غير مصدّقة. وعندما أمسكت بالثانية قفزت هاربة من بين يديها. فظنّت أنّها انزلقت من بين أصابعها. تناولتها من قصعة الماء ثانية فتلوّت وأفلتت منها إلى الماء. سألتني: "متى اصطدت السمكتين؟" قلت: "قبل مرور القطار" قالت: "لم يخلق ربّي سمكة تعيش، خارج الماء، كل هذا الوقت!" ثم التقطت السمكة وحزَّتها بالسكين في منتصفها، فوثب النصف العلوي حيًّا، خارج القصعة، وسقط النصف السفليّ داخل القصعة. قالت: "هذا سمَك باسم الله الرحمن الرحيم!" وقذفت به للكلب. قلت لها: "الكلب أكل جدّي وجدّتي." قالت: "إن شاء الله يأكل رأسك". قلت: "الكلب لا يأكل رأس أخيه!" قالت: "الكلب يأكل رأسك ورأسه".

جاء والدي ليكرر مرّة أخرى أن شغله لم يعد ينفع. حكت له أمّي عن السمكتين. فهزّ برأسه غير مصدّق. وأضاف:

-أيام بوسكو كانت جنّة. كان يناديني لأسلّي العمّال وهم يشتغلون."هكذا أفضل" يقول لي "يا مسيو الكونتير."

وأوضح لي والدي أن "الكونتير" هو اسمه. وله أسماء أخرى مثل المدّاح والفداوي والقوّال والحكواتي، ثم سألني عن الكُتَّاب. أخبرته بأنني حفظت الكثير. فقال لي: "هكذا تستطيع أن تصير فداويًّا على الأقلّ". أجبته بأنني أعرف كل الحكايات التي يرويها من دون أن أذهب إلى الكُتَّاب. قال لي: "ما زلت تكسر اللغّة وتجهل الأمثال."

عرفت من الحكايات أن لكلّ بطلٍ علاماتٍ تسبق مولده. فسهرت أجمع علاماتي وأحصيها. بدأت بالبومة التي راقبتني، ثم عدت القهقرى إلى بطن أمّي لأكتشف علامة أخرى: علاقتي بعين الماء.

قال لي العينوس: "البطل هو الذي يبني عالماً على صورة خالقه. وأنت جئت تحت علامة العين فاصطدمت بصخرة. لن يُجْديك تكرار الحكايات." ثم أخذني من يدي حتى مصطبة المزرعة وقال لي: "انظر! ماذا ترى؟" قلت: "أرى كلّ شيء؛ السماء والشمس والحدأة والنهر..." أمرني "أصرخْ يا بابا!" فصرخت حتّى تلاشى الصدى. سألني: "أين أبوك الآن؟" قلت: "في الدكّان يلعب الورق" قال: "سوف يقول قتلتني أذناي، أمّا أنت فلا تكنْ سامعاً كبيراً بأذنين هائلتين وإلّا قَتَلَتْكَ عيناك." قلت له: " لم أفهم." قال: "عدْ إلى الكُتَّاب".

حفظت سوَراً وآيات صعبة. وفي كل مرة يقول لي المؤدّب: "أخبرْ أمّك أنّك ختمتَ وهات العصيدة" فأجلب له العصيدة حتى لا يضربني بالفلقة، من دون أن أعرف ماذا ختمت. لكنني أدركت أنّ لكلّ ختمٍ ختماً، ولكلّ عصيدة أخرى. وحده يأكل عصائده كل صباح ويتركنا في هرج بين حِبْر السمّاق ولطم الألواح. وما لم أدركه، إلاّ فيما بعد، هو أن طريق الكُتَّاب يؤدي إلى المدرسة النائية، وأن طريق المدرسة النائية معبّد بأشواك وذئاب وثلوج مفاجئة تجعل المدير يرفع العلم فوق المبنى ليقول لنا من بعيد: لا تتقدموا أكثر!

الصفحات