كتاب "التناذر الاسلاموي وتحولات الرأسمالية"، للكاتب أحمد هني، ترجمة ميشال كرم، الاسلاموية السياسية، الناطقة الجديدة بلسان "المحرومين"، لا تهاجم الملكية والقدرة السياسية التي تنبثق منها، بل تهاجم السيادة والحكم ا
أنت هنا
قراءة كتاب التناذر الاسلاموي وتحولات الرأسمالية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
المقدمة
الإسلاموية السياسية المعاصرة ليست ظاهرة «غريبة عنا»، وقد باتت مصدراً كبيراً للهواجس لأنها أنجبت تياراً ناشطاً أقلوياً يحمل راية إسلاموية مسلحة. على أنها ليست موضوع تحاليل عادية. فبدلاً من أن تُعتبر ظاهرة في عالمنا الراهن، ينظر إليها معظم دارسيها على أنها ظاهرة نوعية، خاصة في المجتمعات المسلمة وفي نطاق الدين الإسلامي، منبثقة من عقيدة ألفوية جامدة أكثر منها تعبير عن تحولات العالم المعاصر. وفي رأي هؤلاء أن تفسيرها موجود بصورة جوهرية في الإسلام. وعلى هذا، ينبغي الرجوع إلى القرآن لإلقاء الضوء على هذا «السر المطبق» (1) في نظر العلوم الحديثة. إن مسعانا لن يكون غريباً ولا جوهرانياً ولا لاهوتياً. سنعالج الإسلاموية السياسية أو صيغتها المسلحة أسوة بأية ظاهرة اجتماعية تحصل في ظروف معينة في عالم اليوم.
خطوتنا الأولى هي تأكيد شديد: في قلب الإسلاموية السياسية المعاصرة نجد القرآن أقل مما نجد النفط. إن أول مظهر مسرحي لهذه الإسلاموية حصل سنة 1979 في ذلك البلد النفطي الكبير الذي اسمه إيران. في تلك الحقبة، كان شاه إيران، العاهل المسلم، المستبد الطامع بالظهور بمظهر المستنير والساعي إلى التطور، قد بيَّن، من خلال أبهة احتفالات برسيبوليس، ورغم علمانية معلنة على الملأ، أن الحنين إلى الإمبراطورية يداعب مخيلته. والإسلامويون الذين أطاحوا به، وعلى رأسهم آية اللَّه الخميني، تنكروا بالتأكيد لـ «تغربه»، لكن بالتأكيد ليس لعقيدته الألفوية.
في تلك الحقبة إياها، كانت العربية السعودية، جارة إيران، والبلد الكبير الآخر الذي تحكمه بصورة استبدادية أسرة آل سعود الوهابية، تقوم على المستوى العالمي، بنشر الكتابات الإسلامية، وتمويل إرساليات دينية وتشييد مساجد في العديد من البلدان. وهنا أيضاً، بالطبع، لا يسمح حكم آل سعود، على غرار حكم الشاه، بقيام أية معارضة، لكنه يشجع، بفضل دولاراته النفطية، المعارضات الإسلامية في البلدان الأخرى، حالماً ربما بإعادة إنتاج الهيمنة الإمبراطورية التي كانت لمكة في الزمن الغابر. هذه، على كل حال، هي الهيمنة على المسلمين التي يسعى إليها أحد أبناء العربية السعودية الذي صار عدو العالم ذا الرقم واحد، أسامة بن لادن، داعية الإسلاموية المسلحة.
في بلد مسلم نفطي آخر هو الجزائر، تحولت الإسلاموية إلى إسلاموية مسلحة، سنة 1992، فولّدت حرباً أهلية لا نهاية لها، واهتماماً فجائياً من المجتمعات الأوروبية المجاورة التي تضم «جماعات» مسلمة هامة.
وبدا الخميني كما بن لادن، المتحدران كلاهما من مجتمع نفطي، مدفوعين برغبة ألفوية في إعطاء الإسلام والمسلمين مكانة رفيعة في العالم، على مستوى الدول الكبيرة التي يستهدفانها. فعلى أي شيء يمكن أن يرتكز هذا الطموح؟ إلى أية دعائم مادية وإيديولوجية يمكن أن يستند؟ بتعبير آخر، لعل هذا الطموح تعبير عن موقف يسود العالم الراهن حيث يبغي كل فرد أن تكون له مكانة تُكسبه مساواة لم تعد تبنى على الاستحقاق بل على الانتماء إلى جماعة (أرض، جنسية، ديانة، عرق، جنس، إلخ.). كما سنرى لاحقاً، أن الإسلاموية السياسية المعاصرة لا يمكنها أن تستند، رغم النفط، إلى أي أساس مادي ذي شأن كي تصوغ طموحها، وذلك لأنها ليست في الواقع سوى تعبير خاص عن حركة أكثر عمومية تجتاح العالم الراهن، هي حركة المطالبة المكانية، حيث المكانة والانتماء إلى جماعة يعودان بمنافع أكثر من منافع العمل المسلسل (2)، وحيث يتجلى «تآزر ظاهرات مغرقة في القدم مع التطور التقنولوجي» (3).
إن الإسلاموية السياسية المعاصرة، شأنها شأن كل الحركات المضادة للعصر، تحاول أن تفرض الفكرة القائلة بأن العالم لم يعد يتوجه تبعاً لفعل الأفراد بل لفعل شعوب أو جماعات تحقق مصيراً. وهي لأجل هذا تجعل من السياسة لاهوتاً، على نحو ما حاول أن يفعل بالأمس أو اليوم، بعض الأوروبيين والأميركيين. من هؤلاء مثلاً كارل شميت، المؤلف الألماني في القرن العشرين (1888 ـ 1985)، الذي انضم إلى الحزب النازي فترة ما، والذي يقول «إن جوهر الفعل السياسي هو التمييز بين الصديقوالعدو» (4). «إن اللون المحلي الخاص بمختلف العصور لا يقلل بتاتاً من وضوح المسألة الأساسية التي هي معرفة مَن هو العدو الحقيقي» (5)، هذا ما كتبه. ليو شتراوس، ملهم المحافظين الجدد الأميركيين الحاليين الذي كان تلميذه. كما أن نظرية صموئيل هانتنغتن حول صدام الحضارات ليست منبثقة من تيار فكري غير هذا (6).
إن فكرة المكانة هذه وثيقة الارتباط بفكرة السيادة. ولعل النزاعات التي تجتاح المجتمعات المعاصرة والعالم المعاصر هي نزاعات سيادية بين جماعات بقدر ما هي نزاعات بين طبقات حول الملكية. إن الإسلاموية السياسية المعاصرة تخفي تماماً المشاكل المتصلة بالملكية، تلك التي كانت وراء اشتداد النضالات حول وسائل الإنتاج. ويسعى الإسلامويون، المسلحون خصوصاً، إلى ممارسة سيادتهم على باقي العالم. وهم ليسوا الوحيدين الذين يريدون ذلك. فإن شعارات الإيديولوجيا المكانية في الولايات المتحدة مثلاً تذهب من «تفوّق البيض» White supremacist إلى «حركة البيض من أجل البقاء» White survival movement . وفي كتاب بعنوان «الجمهورية الآرية الآتية» The Coming Aryan Republic (1989) ، يقترح مؤلف يدعى ج. كليركين إقامة جمهورية أرسطقراتية يكون فيها البيض الطبقةالمهيمنة والآخرون، كما في روما، العامة الخاضعة للسخرة (7).
العالم كله اليوم موبوء بالإيديولوجيات المكانية. إن هذا الظهور الجديد ليس مصادفة، وإنما هو يصاحب تكاثر الوضعيات الريعية. فالمكانة والريع يسيران جنباً إلى جنب، كما نعلم، منذ المجتمع الإقطاعي (8). والمجتمعات المعاصرة تنشط وتتحرك لكي تغنم الريوع بفضل آليات سيادية. وإذا كان بعضها، كالولايات المتحدة، يستخدم سيادته النقدية، فهناك بعض آخر يستخدم سيادته على باطن أرضه. ومن بين هذه، كان أول من فعل ذلك، سنة 1973، هو المجتمعات النفطية المسلمة، التي كانت ترمي حينذاك إلى التأثير في النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني ليس بواسطة القدرة المادية بل بواسطة سيادتها على النفط. وقد قطفت ثمار ذلك بمضاعفة سعر النفط ثلاث مرات وبتدفق دولارات النفط الذي أثار جنون طموحاتها وأسهم في تغذية العقيدة الألفوية الإسلاموية.
إذن، في ظل ظرف تاريخي محدد، تنمو الحركات المكانية والريعية، مثيرة نزاعات سيادية، من بينها الإسلاموية السياسية المعاصرة التي تستخدم الإسلام كإيديولوجيا خاصة ذات غائية ألفوية. إن هذه العقيدة الألفوية، إذ تتغذى بالريع النفطي وبآيات قرآنية، تمتُّ بالنسب إلى حنين إمبراطوري، ذاك الذي صنع عظمة إمبراطورية غابرة ويحض على تحدي الإمبراطورية الفعلية الراهنة، الولايات المتحدة. غير أنه إذا كان هذا الطموح يداعب أنا بعض الرسل، فإنه لا يستند، كما سنبين فيما بعد، إلى أي أساس مادي، ولا يفعل سوى صرف اهتمام مجموعات من السكان لا تزال تنوء تحت عبء الفقر عن مستقبل أكثر إنتاجية.