موضوع هذا الكتاب ((شعر الصراع بين الإسلام وخصومه في عصر النبوة))، وهو بحث معنيّ بكشف أحداث ذلك الصراع الذي احتدم بين الإسلام ومناوئيه عندما ظهرت الدعوة إلى الإسلام، وبإلقاء الضوء على الدور الذي شارك فيه الشعر في ذلك الصراع.
أنت هنا
قراءة كتاب شعر الصراع بين الإسلام وخصومه في عصر النبوة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
شعر الصراع بين الإسلام وخصومه في عصر النبوة
وأول من روى شعر الشعراء هم الشعراء أنفسهم، ثم أقاربهم وأبناء قبيلتهم. مثال ذلك أنه لما مات حسان أوقد ابنه عبد الرحمن ناراً، حتى إذا اجتمع عليه الحيُّ قال: قد قلت بيتاً فخفت أن يسقط بحدث يحدث عليّ فجمعتكم لتسمعوه، فأنشدهم[41]:
وإن امرأً نال الغنى ثم لم ينل صديقاً ولا ذا حاجةٍ لزهيدُ
وكان عمر بن الخطاب قد قال يوماً لمن حضره من المسلمين في المدينة: ((إني قد كنت نهيتكم أن تذكروا مما كان بين المسلمين والمشركين شيئاً، دفعاً للتضاغن عنكم وبثّ القبيح فيما بينكم، فأما إذْ أبوا فاكتبوه واحتفظوا به، فدوَّنوا ذلك عندهم، فكانت الأنصار لتجدده عندها إذا خافت بلاه[42].
وشارك الصحابة والتابعون في رواية شعر الفترة، إما لعلاقة هذا الشعر بحديث شريف، وإما لصلته بحادث تاريخي في عصر النبوة. ويبدو ذلك واضحاً في الكتب التي حفظت لنا الإسناد مرفوعاً إلى عصر الشاعر. جاء في تاريخ الطبري[43]: قال أبو جعفر – يعني نفسه – حدثنا أبوكريب قال: حدثنا جعفر بن عون العمري قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل عن عمرو – أو عمر – بن أسيد عن أبي هريرة... ثم أورد الشعر.
وجاء في طبقات ابن سعد قال[44] أخبرنا عفان بن مسلم قال: أخبرنا يلم بن غزوان قال: أخبرنا ثابت البناني عن أنس بن مالك... وأورد الشعر.
وبقي العرب يتناقلون شعر الفترةوغيرها بالرواية الشفوية خلال القرن الأول الهجري، وعندما بدأ تدوين الشعر في القرن الثاني، لم تبق الرواية على أصالتها وجديتها، بل تسرّب إليها شيء من الوضع والتزيُّد. وبخاصة عند ظهور طائفة من الرواة المحترفين للشعر في مكة والمدينة ودمشق والبصرة والكوفة، فظهر كثير من الرواة – ما بين حفظة وناقلين ومستشهدين – وأصبح الشعر تجارة رابحة يُعْتَدُّ بها، وصناعة يُتَكَسَّبُ من امتهانها. ومن هنا أخذ بعض الرواة يخترعون الأشعار وينسبونها إلى مَنْ شاءوا من شعراء الجاهلية وغير الجاهلية، ثم يطرحونها في سوق العلم ويعرضونها على العلماء طمعاً في الكسب والارتزاق. وتلك طبيعة الإنسان مهما اختلفت ظروفه، وتنوَّعتْ بيئته، ومهما كان حظه من الحضارة والرقيّ.
وقامت – إلى جانب هؤلاء – طائفة من الرواة العلماء في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري[45] من أمثال أبي عمرو بن العلاء وحماد الرواية والمفضل الضبي وخلف الأحمر وغيرهم، فكانوا الطبقة الاولى من العلماء الذين عرفتهم العربية في تاريخها الحافل، فتلقّوا تراث الجاهلية الذي وصلهم بعضه مدوناً في دواوين كاملة، وبعضه مدوناً في صحف متفرقة، وبعضه عن طريق الرواية الشفوية، فقاموا بتمحيصه ودراسته بأمانة، وحرصوا على أن تكون حصيلتهم منه خالية من الكذب والتلفيق ثم بلغوه لمن جاء بعدهم، فحمله عنهم علماء الطبقة الثانية. ومع ذلك كان لابد من أن يختلفوا، لأنه وقع لبعضهم من الصحف المكتوبة أو الدواوين المدونة أو الرواة من الشيوخ العلماء، ومن الأعراب الفصحاء ما لم يقع لغيره. ثم كان لكل طائفة من هؤلاء العلماء منهج في الأخذ والتلقي. ولكن هذا الخلاف في المصادر أولاً وفي المنهج ثانياً، لم يمنع العلماء من أن يأخذ بعضهم عن بعض، ومن أن يرحل علماء المصر إلى المصر المجاور[46] ليأخذوا منهم، ويرووا عنهم، ثم ينقلوا ما يتقنوا صحته إلى تلاميذهم، ويكتبوه فيما يجمعوه من دواوين[47].
وانقسم العلماء إلى مذاهب، فوجد مذهب الكوفة، ومذهب البصرة، ومذهب بغداد، والمدينة، وصار لكل مذهب تلاميذ يتعصَّبون لمذهبهم وشيوخهم، ويوثقون روايتهم، ويطعنون في شيوخ المذاهب الأخرى، ويتهمونهم بالوضع والاختلاق.
وكان التنافس بين البصرة والكوفة شديداً، والخلاف محتدماً من عدة نواحٍ. فمن الناحية الحزبية فالكوفة علوية، والبصرة عثمانية. ومن الناحية العنصرية فأكثر أهل الكوفة من اليمانيين، وأكثر أهل البصرة من المضريين. ومن الناحية العلمية، فأهل الكوفة أصحاب فقهٍ وحديثٍ وقراءة، وأهل البصرة أصحاب علوم وفلسفات، لأنهم أكثر اختلاطاً بالأجانب من أهل الكوفة، وأكثر حرية في اعتناق المذاهب المختلفة، وأسرع إلى الأخذ من الثقافات الأجنبية لتوافر مصادرها عندهم، وكثرة انتقالاتهم للكسب والتجارة.
والكوفة – مع ضعف الاتصال بين عناصرها العربية وعناصرها الأجنبية – أكثر تحرجاً من أهل البصرة في الأخذ بثقافات الأجانب، ولكثرة من فيها من الصحابة والتابعين، ومن الفقهاء وأهل الدين.
هذه العوامل أحكمت أسباب الاختلاف بين المصرين، فكان من نتائج هذا التنافس أن كانوا يتناظرون في مجالس الخلفاء حين تجتمع وفودهم في دواوينهم. وكان الخلفاء يستمتعون بهذا النوع من المناظرات، وربما ظاهروا فريقاً على فريق، لأسباب تدعوهم إلى ذلك[48] وتناولت هذه المناظرات نواحي عدة،ومن بينها الناحية الثقافية. ومن هذه الناحية مناظراتهم في الشعر وحفظه وروايته.
وما دمنا قد عرضنا للرواية بشكل عام، نرى أن نعرض للرواة الذين اضطلعوا برواية شعر الفترة لنتبين حظهم من التوثيق والتجريح، لأن ذلك يساعدنا على أن نحكم – ولو حكماً تقريبياً – على مدى نصيب هذا الشعر – بشكل عام – من الثقة والصحة. وسوف ننهج في دراستنا لهؤلاء الرواة نهجاً زمنياً حسب سنوات وفاتهم، دون مراعاة تقسيم المذاهب، لأن رواة الخبر الذي يتضمن الشعر، فيهم الكوفي والبصري والبغدادي، وغيرهم، ولكننا مع ذلك سنشير في أثناء حديثنا إلى المذهب الذي ينتسب إليه الراوية.
ورواة شعر الفترة كما وجدناها في الكتب التي عني أصحابها بذكر الأسانيد كالطبقات الكبرى وأنساب الأشراف وتاريخ الطبري والأغاني وغيرها، هم:
الشعبي (ت:104 أو 105 هـ)[49]
هو أبو عمرو عامر بن شراحيل بن عبد الحميري الشعبي الكوفي، تابعي جليل القدر، ومن رجال الحدبث الثقات[50]. روى عن علي بن أبي طالب وعائشة أم المؤمنين، وأبي هريرة[51]، وسعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت، وعبادة بن الصامت، وأبي موسى الأشعري، والمغيرة بن شعبة، وأبي سعيد الخدري، وأم سلمة، وغيرهم[52].
وروى عنه كثيرون كسماك بن حرب، والأعمش، ومنصور، وعبد الله بن عون، وشعبة بن الحجاج[53].
كان فقيهاً بارعاً، وإماماً حافظاً، يضرب المثل بحفظه. سئل يوماً عما بلغ إليه حفظه فقال[54]: (( ما كتبت سوداء في بيضاء، ولا حدثني رجل بحديث إلا حفظته)). وروي عنه أنه قال[55]: ((لست لشيء من العلوم أقل رواية من الشعر، ولو شئت لأنشدت شهراً ولا أعيد بيتاً)).
اتفق العلماء على إمامته وثقته[56]. قال سفيان بن عيينة: ((لم يُدْرَكْ مثل ابن عباس في زمانه، ولا مثل الشعبي في زمانه، ولا مثل الثوري في زمانه))[57] وقال مكحول: ((ما رأيت أعلم من الشعبي))[58] وقال ابن سيرين لأبي بكر : ((الزم الشعبي فقد رأيته يُستفتى والصحابة متوافرون)) وأثنى معاصره على علمه وتواضعه وفضله وأخلاقه[59]. وقد روى شعر كعب بن مالك الأنصاري وغيره[60].