كتاب " تردى الفكر الإسلامى المعاصر بين الأصولية المستبدة والعلمانية المستفزة " ، تأليف د. احمد طه ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب تردى الفكر الإسلامى المعاصر بين الأصولية المستبدة والعلمانية المستفزة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
تردى الفكر الإسلامى المعاصر بين الأصولية المستبدة والعلمانية المستفزة
والقرآن الكريم جاء بمبادئ وقواعد عامة ومجردة، إلا أنه فى معظم أمور الدنيا لم يتضمن التفاصيل الخاصة فى كافة المسائل التى يمكن أن تثور فى عالم يتغير بصفة مستمرة، وهذا هو سر عالمية القرآن باعتباره وحياً من الخالق العليم بأحوال عباده المتغيرة.
وفضلاً عن ذلك فإن السنة النبوية فيما يتعلق منها بأمور الدنيا فإنما وجدت لمواجهة أحوال وظروف شعب فى زمان معين، إذ أن المعنى الذى يفهم من لفظ السنة أنها ما يسير عليها الناس فى عصر معين، ومن ثمَّ فلكل عصر سننه ومبادؤه التى تحكم أمور الناس الدنيوية والتى تزول بزوال هذا العصر، حيث يتعارف الناس على عادات وسلوكيات وقواعد جديدة – وفى ذلك يقول المولى عز وجل ﴿خُذِ ﭐلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِـﭐلْعُرْفِ﴾(3)، وعلى ذلك فإنه من الظلم للإسلام أن نبحث فيه عن حلول لكل جزئية من مشكلات العالم فى مجالاته المستحدثة إداريًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا خاصة فى تلك الحقبة المعاصرة – والادعاء بأن ما كان صالحاً فى صدر الإسلام لابد وحتماً صالح فى العصر الحالى، ومن ثم فإن الصواب يكون بالتعامل مع كل عصر طبقاً لظروفه وأسبابه وثوابته الجديدة بما لا يتعارض مع الأحكام أو الأصول الكلية أو القواعد الأساسية التى يقوم عليها ديننا الحنيف.
وفى هذا البحث يثور التساؤل، ما هو موقف الخطاب الإسلامى أو كيف يتعامل مع الأطروحات أو المشاكل التى تقابل الأمة الإسلامية فى العصر الحديث؟ أو بمعنى آخر كيف يمكن للمسلمين مواجهة معطيات ومظاهر هذا العصر، وما هى رؤيتهم بشأنها حتى يسايروا العصر ويأخذوا بأسباب نهضته قبل أن يفوتهم الأوان من ناحية، ودونما خروج على القواعد العامة لدينهم الحنيف من ناحية أخرى، وهل الخطاب الدينى السائد فى المجتمع الإسلامى يأخذ على عاتقه الاضطلاع بتلك المسئولية؟ هذا هو موضوع بحثنا الماثل، ونعتقد أن لهذا الموضوع أهمية كبيرة.
فمن الناحية النظرية يسود فى الخطاب الإسلامى اتجاهات مختلفة فى هذا المجال، بعضها يعارض كافة الأنظمة العالمية المعاصرة ويدير لها ظهره بادعاء أنها أنظمة كافرة، والبعض الأخر على العكس ينبهر بوسائل وأنظمة وتقنيات الغرب ويحاول اللحاق بحضارتهم حتى وإن خالفت أصول دينه، وبينما نجد اتجاهاً ثالثاً آثر السلبية تردداً وتخوفاً فى اختيار أى الاتجاهين، ومن هنا تبرز الأهمية العلمية لدراسة موضوع البحث للإسهام فى إنارة الطريق أمام أولئك الذين يبتغون رضوان الله من ناحية وملاحقة التطور والرقى الذى يراه واضحا فى كثير من المجالات داخل الحضارة الغربية من ناحية أخرى.
ونحن نؤمن بقدرة عقل كل مسلم من ذوى البصيرة والفكر الراجح فى الوصول للحق والتعرف على الطريق المستقيم, سيما إذا ما كان صاحب هذا العقل يؤمن بما يقول ويعمل بما يهديه إليه عقله.
ومن هذا المنطلق فقد رأينا أن نسهم بجهدنا فى إعداد هذا البحث، والذى يجدر بى أن أنوه فى بدايته إلى أننا وإن كنا نتمنى أن يأتى وافياً وشاملاً ومحققاً للهدف منه لدرجة الكمال - وهو أمر لاشك عسير- سيما أننا لا ندعى تحقيق ما يجب من العلم أو التفقه فى الدين، وإنما حسبنا أننا مجرد أحد المسلمين الباحثين نحاول الاجتهاد بقدر ما أوتينا من علم، وبقدر ما يوفقنى الله فى ذلك قاصداً وجه الله عز وجل ومصلحة الأمة الإسلامية.
ويجب أن يلاحظ هنا أن ذلك البحث متشعب ويثير موضوعات فى شتَّى المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وما يتفرع عنها من تفاصيل متشابهة يصعب الفصل بين حدودها، ومن الطبيعى أنه يتعذر على أى باحث أن يكون متخصصاً فى كل هذه المجالات، وعموماً فسوف نحاول أن نجمع شتات تلك الموضوعات حتى وإن اقتضى ذلك الاعتراف بالحقائق المرة فى واقعنا الإسلامى، أو انتقاد ما يعترى خطابنا الدينى، لا بقصد التشهير أو الإساءة، وإنما بغرض الإصلاح والإفادة فى عالم لم يعد للمزايدات أو الشعارات موضع فيه.
ومن ثَمَّ فإننى لا أجد حرجاً – خلال هذا البحث - فى أن أبرز أوجه التقدم والإصلاح والرقى لدى الغرب، وأوجه الخلل والقصور وربما الفساد فى مجتمعنا الإسلامى، فى صورة حقائق موثقة دون تزييف حتى وإن بدت الصورة قاتمة أحياناً ليكون ذلك حافزاً لنا، ولهذا فإننى لا أجد أيضاً حرجا فى أن أقرر أن كثيراً من المُسَلَّمات والثوابت فى خطابنا الإسلامى تحتاج إلى توصيف دقيق ومراجعة أمينة وتحليل صادق وتقييم أو قل نقد بناء، ذلك أن من أهم أصول البحث أن الأصنام التاريخية ضد طبيعة العقل، وأن الأحكام المطلقة هى دون شك ضد حركة التاريخ، وأن الواجب علينا فى إطار هذا البحث ألا نغفل عن استيعاب جميع المستجدات على الساحة العالمية، والتى انعكست بدورها على الساحة الإسلامية.
وتجدر الإشارة فى هذا الموضوع إلى أن منهج وموضوع بحثنا إذ يتعلق بالخطاب الإسلامى فإنه قد يثير المشاعر لدى الكثيرين وهو أمر لا مفر منه، مما يوجب أيضاً أن نحاول قدر الطاقة البعد عن الشطط أو الإسفاف والالتزام بالموضوعية دون تحيز أو تحامل، ملتزمين الحيدة بوصفها أهم أصول البحث، حتى يأتى هذا البحث متفقاً مع الأصول العلمية المقررة – قدر الإمكان – فإذا ما ترتب على هذا البحث إثارة البعض فإنما نقول له إنه محض اجتهاد أو قل إنه رأى لنا، فإن أصبنا فمن الله ولنا أجران، وإن أخطأنا فمن أنفسنا ولنا أجر، سيما وأننا لا نبتغى من هذا البحث سوى الإسهام فى محاولة النهوض بالخطاب الدينى وإخراجه من مأزق خطير أصبح معه فى حاجة عاجلة لاستحضار ذاكرة أمتنا الأصلية، وصولاً لاستعادة تضامن أمة المسلمين، لتكون بحق أمة إسلامية فاعلة تمارس دوراً حيويّاً فى عالم اليوم، وكى نكون أمة تبرأ من رنين اللفظ وتؤمن إيماناً عقلياً بالثوابت – أمة صادقة مع نفسها تقول ما تؤمن به وتسعى للأخذ والعطاء مع الدنيا من حولها دون تعصب أو انحياز ودون عفوية أو اندفاع حتى لا يصفها الآخرون بازدواج الشخصية أو أنها محض ظاهرة صوتية، وفى ذات الاتجاه فإننى لا أقصد – من خلال هذا البحث - إلزام غيرى أو دعوتهم للأخذ بما رأيته صواباً أو اعتباره قضية مسلما بها، وإنما نحن نحاول الوصول إلى الصواب ونجتهد فى البحث عنه.
وربما نطمع فى أن نضيف بهذا الفكر جديداً يمكن أن يسهم فى إثراء الخطاب الإسلامى، فى زمن نحن فى أمس الحاجة لخطاب دينى مستنير نواجه به التحديات الجسيمة التى باتت تحيط بكياننا وتهدد أراضينا وتصوب نيرانها لديارنا ومعتقداتنا، خاصة بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر عام 2001 التى وقعت فى الولايات المتحدة الأمريكية، والتى أدت إلى حدوث تغيير جذرى فى السياسة العالمية، وما عاصر ذلك من اتهام للإسلام والمسلمين بالإرهاب، وما تبع ذلك من حملات إعلامية وعسكرية ضد العرب والمسلمين، وهو ما ينذر بحدوث حرب عالمية ثالثة مع بداية هذا القرن يكون أحد طرفيها أتباع الإسلام، وهو ما يمثل أكبر إساءة وأعظم ضرر للإسلام والمسلمين.
وهذه الأحداث يجب أن تكون حافزاً لنا للتأمل وإعادة قراءة خطابنا الدينى لتنقيته مما أَلَمَّ به وتطويره، من خلال مراجعة دقيقة لمعطيات هذا الخطاب فى إطار رؤية مستنيرة لديننا الحنيف من أجل بناء إنسان مؤمن قوى، على أسس من تعاليم الإسلام التى تدعو للتسامح والتعاون والتكافل وليس العداء والكراهية والتنابذ والفرقة، باعتبار أن التحديات التى تواجه العالم الإسلامى باتت تحتم إعادة التفكير فيما يحقق مصالح المسلمين ويعيد الوجه الحقيقى للإسلام فى نظر أتباع الديانات الأخرى.
وإذا كان موضوع هذا البحث يدور حول واقع الخطاب الإسلامى فإنه يجدر التنويه بأنه لا يجوز الاستدلال أو الحكم على الإسلام من خلال خطاب المسلمين، فهم ليسوا حجة على الإسلام، خاصة إذا ذهب خطابهم بعيدا عن الإسلام الصحيح، وإن كان الإسلام لاشك يتأثر قوة وضعفاً بأحوال أتباعه ولو بطريق غير مباشر.
وإذا كنا نحاول من هذا البحث استنهاض الخطاب الإسلامى والإسهام فى تأهيله للتعامل مع الألفية الثالثة فى عالم مختلف، فإن ذلك يقتضى، وفى إطار الالتزام بالموضوعية والحياد الأكاديمى، أن نكون صرحاء مع أنفسنا عند التعرض لما آل إليه حالة الخطاب الإسلامى، دون مجاملة أو تحامل، بما يترتب على ذلك من إبراز للسلبيات التى تشوب هذا الخطاب لمحاولة الوصول لأسبابها وتحديد رؤيتنا بشأن معالجتها، باعتبار أن ذلك هو غاية البحث، وسوف يعيننا على ذلك عدم انتمائنا لأى مذهب أو حركة أو اتجاه فكرى معين من تلك السائدة على الساحة الإسلامية – وهو ما قد يساعدنا فى أن نقترب من التوصيف الدقيق أو المراجعة الأمينة أو التحليل الصادق لهذا الخطاب أو ذاك من تلك السائدة على الساحة الإسلامية، ولهذا سوف لا نتحرج عن الإشارة – فى صراحة ودون إثارة - لأهم الظواهر السلبية فى تلك الخطابات، حتى وإن كانت الصورة قاتمة، إذ لا يجوز مهادنة الباطل على حساب الحق، ويجب ألا نخشى فى الله لومة لائم، وحتى لا نظل مغيبين عما يجرى من حولنا فى كل اتجاه، دون إحساس بما ينتظر أمتنا من مصير لا يعلم مداه إلا الله تعالى.
والخطاب الإسلامى السائد فى البلاد الإسلامية يمكن رده إلى اتجاهين أو خطابين، أحدهما رجعى سلفى أو أصولى يركن إلى القديم، والآخر تقدمى أو تحررى يتجه صوب الغريب.
وواقع الأمر أن كلا الخطابين أو الاتجاهين يجمع بينهما التقليد الأعمى فى كل فعل أو قول يؤمن به ويدعو إليه، وكلاهما يتناقض مع الآخر شكلاً وموضوعاً، بل ويتحاربان إلى حد الدخول فى معارك دموية فضلاً عن اتجاه كل خطاب لتكفير أتباع الخطاب الآخر، ويرجع ذلك لأن كل اتجاه ينأى بعيداً عن الموضوعية ويسلك طريقاً متطرفاً إما لأقصى اليمين أو أقصى الشمال، وإلى حد يفوق أشد ما ذهبت إليه المصادر التى يستندون إليها سواء فى ذلك أقدم الأصوليين أو أحدث المتحررين.
ويقف السواد الأعظم من المسلمين فيما بين هذين الاتجاهين حائراً وعاجزاً عن الحركة - لا يدرى أيهما يسلك، الأمر الذى يصيبه بالسلبية واللامبالاة نتيجة للتشويش العقائدى الذى أصابه من جراء العداء والصراع الدائر بين كلا الاتجاهين، خاصة أن كلاًّ منهما يدعى الانتساب للإسلام.
واستناداً لذلك فسوف نتناول فى هذا البحث عرض الاتجاهات الحديثة فى الخطاب الدينى ببعض من التأمل والفحص والمناقشة لهذه الاتجاهات، فنتناول فى فصل أول التعرض للخطاب الدينى الأصولى، أى الذى يمثله أو يقول به الاتجاه الأصولى، وهو الخطاب السائد فى الفكر الإسلامى المعاصر، للوقوف على أسس أو مقومات هذا الخطاب، ثم نعرض فى فصل ثان للاتجاه العلمانى وهو الذى يقول به العلمانيون أو أنصار التغريب، وهم قلة يظهرون حيناً ويختفون أحياناً أخرى بحسب قوة أو ضعف الاتجاه الأول، وفى الفصل الثالث نحاول تسليط الأضواء على مسلك كلا الاتجاهين بغرض تقييمها وصولاً لمحاولة إعمال مبدأ وسطية الإسلام من خلال تحقيق تطوير حقيقى للخطاب الدينى، حيث نتناول فى ذلك الفصل مفهوم التطوير وأسسه وأهميته، ثم نعرض لأهم التطبيقات العملية وذلك على النحو التالى.....