كتاب " تردى الفكر الإسلامى المعاصر بين الأصولية المستبدة والعلمانية المستفزة " ، تأليف د. احمد طه ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب تردى الفكر الإسلامى المعاصر بين الأصولية المستبدة والعلمانية المستفزة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
تردى الفكر الإسلامى المعاصر بين الأصولية المستبدة والعلمانية المستفزة
ثانياً: عدم التفرقة بين الفكر البشرى والدين
يوحد الخطاب الدينى الأصولى بين النصوص الدينية المتمثلة فى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وبين فهمه أو قراءته لهذه النصوص، وهو ما يترتب عليه إلغاء المسافة المعرفية بين الذات والموضوع – بل أكثر من ذلك يدعى هذا الخطاب بقدرته على الوصول للقصد الإلهى الكامن فى هذه النصوص، متجاوزاً بذلك كل العوائق والشروط المعرفية، وهو ما يعنى فى ذات الاتجاه ادعاءه القدرة على الحديث باسم الله – وهو ما يعنى سلوك ذات الاتجاه الذى سلكه رجال الكنيسة فى القرون الوسطى.
ويتناسى هذا الاتجاه أنه منذ فجر الإسلام كان يسود اعتقاد مؤكد لدى الجيل الأول من المسلمين قوامه التفرقة بين النصوص الدينية والخبرة الإنسانية وحصاد العقل، وأن لكل منها مجاله وفعاليته، آية ذلك أن كثيراً من المسلمين فى عصر النبوة كانوا دائما ما يسألون النبى عما إذا كانت أفعاله أو تصرفاته محكومة بالوحى أم بالعقل والخبرة، وقد أرسى الرسول مبدأً هاما فى قوله (أَنتم أعلم بشئون دنياكم).
إلا أن الخطاب الأصولى يصر على مسلكه ويصف فكره وفهمه أو تفسيره للإسلام على أنه الإسلام كما يجب أن يكون، وكأن ما يقول به يصدر عن مفترضات لا تقبل الجدل أو المناقشة، وهو ما يعنى الاقتناع بامتلاك الحقيقة دون غيره فى هذا الخطاب.
ويترتب على تلك المسألة أن يكون المعنى الوحيد أو الاتجاه الأوحد للإسلام هو ذلك الذى يقول به أنصار الأصولية دون غيرهم، وأن هذا المعنى يظل ثابتاً لا يتغير مع تغير المجتمعات أو الأزمنة أو الظروف الاجتماعية، وأنه لا يوجد ثمة مجال لتطوير أو تحديث للخطاب أو الفكر الإسلامى، وهو ما يعنى الحكم بالجمود على الإسلام بعد صبه فى قوالب ثابتة لا يجوز النظر فيها أو الاجتهاد معها سواء تعلق ذلك بالقواعد الكلية أو التفاصيل الجزئية، وسواء ارتبط ذلك بالعبادات أو المعاملات.
فالإسلام فى نظر ممثلى هذا الاتجاه هو مسلك واحد ونظرة واحدة بل وفكر واحد هو فكرهم بالطبع، فليس هناك إسلام سياسى وآخر اجتماعى، أو إسلام تقدمى وآخر رجعى، أو إسلام متطرف وآخر معتدل، أو إسلام ثورى وآخر استسلامى، أو إسلام لسلاطين وآخر للجماهير، إنما هو كتاب واحد أنزله الله على رسوله فقام بتبليغه للناس... ولو فتحت أى صفحة من صفحات التاريخ الإسلامى ستجدها مكتوبة بفصيح اللسان وصريح العبارة(8).
وهذا القول قول حق قصد به باطل، لأنه يعنى تكفير كافة الاتجاهات الأخرى فى الإسلام رغم تعددها على مدى التاريخ الإسلامى، تلك الاتجاهات أو الفرق التى نشأت استنادا لأسباب سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، واعتنقت مذاهب متباينة أحيانا، وإن كانت تصب جميعا فى نهر الإسلام، وهذه المذاهب حددت مسارها من خلال الاجتهاد أو تأويل ذات النصوص التى يستند إليها الأصوليون عبر حركة وتطور التاريخ الإسلامى.
وواضح أن الأمر محل الاعتبار لدى هذا الاتجاه الأصولى هو بالدرجة الأولى ذو طابع طائفى أو شخصى – إذ الإسلام من وجهة نظره هو ما يقوله علماء هذا الاتجاه وأتباعهم دون غيرهم، الإسلام الحقيقى هو الذى يفصح عنه هؤلاء العلماء، لأنهم دون غيرهم القادرون على فهم الإسلام الصحيح ولا يجوز لسلطة التفسير والتأويل أن تتجاوز أو تتعدى دائرتهم – أما غيرهم ممن يدعى على كتاب الله وسنة رسوله، ويطعن فى علماء الأمة فغير أمناء على مبادئ وتعاليم الدين، ومن يأخذ عن علماء المذاهب الأخرى فإنه يهمل دلائل القرآن والحديث، ومن ثم يهمل الدين ومصادر التشريع ويتذرع هذا الاتجاه بحجة واهية مفادها أن دراسة الشريعة بغير معلم لا تسلم من أخطار ولا تنجو من الآفات، وأن هذا هو ما جعل علماء التراث يحذرون من تلقى العلم عن هذا النوع من المتعلمين، فالقرآن لا يؤخذ من مصحفى والعلم لا يؤخذ من صحفى(9).
ويلاحظ مدى قصور هذا الرأى وتطرفه، ذلك أنه ينتهى فى الواقع العملى للتسليم بضرورة وجود سلطة مقدسة فى الإسلام يجب الرجوع إليها وحدها فى كافة مسائل الدين والدنيا، وهو ما يعنى العودة بالإسلام إلى كهنوت العصور الوسطى وتحكم الكنيسة وصكوك الغفران، والتى تسببت فى إفساد الزرع والحرث فى أوروبا آنذاك.
ويتفرع عن مبدأ الخلط بين الفكر والدين محاولة احتكار الفكر أو الخطاب الدينى من قبل أنصار الاتجاه الأصولى باعتبار أنهم الذين يملكون الحقيقة المطلقة، وهو ما يترتب عليه محاولة تكفير خصومهم أو على الأقل تجهيلهم – نظرا لعدم اتساع صدر أصحاب هذا الاتجاه لأى خلاف أو حتى نقاش خاصة فى المسائل الجوهرية – فما يقوله هؤلاء هو عين الحقيقة باعتباره صادرا من أهل الحل والعقد أو أهل العلم بالدين، وما عداه فهو لغط وافتراء على الدين وتجرؤ على الشريعة يصدر إما عن مأجور أو حاقد أو جاهل أو على الأقل ليس أهلا للفتوى، ولا حجة فى أى قول أو فتوى تصدر عن أى جهة غيرهم باعتبارهم جهة الاختصاص الوحيدة وكأنهم المنوط بهم الحديث باسم الله ورسوله.
ومن هذا المنطلق يعمد هذا الاتجاه إلى إطلاق الشعارات البراقة الواحد تلو الآخر بدءا من شعار (الإسلام هو الحل) فى تفسيره أو تحليله أو معالجته لكافة مشكلات المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، دون أن يحدد بوضوح كيفية استخدام هذا الشعار فى حل تلك المشكلات، أو محاولة حلها بأساليب علمية وهو ما يعنى عجز هذا الخطاب الدينى عن اقتراح الحلول الواقعية لمشكلات المجتمع، نتيجة للعجز عن فهم وإدراك الواقع، وكلما تعرض للنقد استبدل بشعار آخر مثل (الإسلام أمل الأمة – القدس فى القلب – الحجاب فريضة كالصلاة...إلخ). وبديهى أن أى معارضة لهذه الشعارات لابد أن توصف بالكفر أو الإلحاد أو العلمانية، ويستمر العجز عن حل مشكلات المجتمع أو التستر عليها، وفى نفس الوقت يستمر اليهود فى إحكام قبضتهم على القدس وهلم جرا.
وكلما زادت مشكلاتنا واستفحلت تظهر المبررات لدى الخطاب الأصولى مثل نظرية المؤامرة، وهى الشماعة التى نعلق عليها كل أخطائنا، وذلك بتحميل الآخر خاصة الغربى المسيحى كل المسئولية عن تخلفنا، بل وكافة ما نعانيه من مشاكل وصولا لوصف هذا الآخر بالشيطان أو العدو الكافر، وفى ذلك يقول الشيخ سيد قطب فى كتابه (معالم فى الطريق) صفحة 126 وما بعدها: إن الاتجاهات الثقافية والمنجزات الفكرية فى الحضارة الغربية متأثرة بطريق مباشر بتصورات جاهلية، وأن معظمها يتضمن فى أصوله عداءً ظاهرا أو خفيا للدين خاصة الدين الإسلامى، بل وتعد إحدى مصايد اليهودية العالمية، وأنه لا يجوز للمسلم أن يتلقى مبادئ نظام حكمه أو مذهب مجتمعه أو تفسير نشاطه أو موجبات فنه وأدبه من غير مسلم يثق فى دينه وتقواه، لأن كل ذلك يدخل فى مجال العقيدة التى يجب أن تؤخذ عن الله الذى لا يقبل منهجا مع منهجه.