كتاب " تردى الفكر الإسلامى المعاصر بين الأصولية المستبدة والعلمانية المستفزة " ، تأليف د. احمد طه ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب تردى الفكر الإسلامى المعاصر بين الأصولية المستبدة والعلمانية المستفزة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
تردى الفكر الإسلامى المعاصر بين الأصولية المستبدة والعلمانية المستفزة
القواعد أو المبادئ التى يقوم عليها الخطاب الدينى الأصولى
يقوم الخطاب الدينى الأصولى على أربعة مبادئ أو قواعد أساسية نتعرض لها بنوع من التفصيل على النحو التالى:-
أولا: الاستناد إلى التراث أو أعمال السلف وإهمال العامل التاريخى
يعتمد الاتجاه الأصولى فى فهمه للدين على أقوال السلف وتفسيراتهم اعتمادا كليا يصل إلى حد تحويل هذه الأقوال إلى نصوص لا يمكن مناقشتها أو محاولة الاجتهاد وإعادة النظر فيها، بل أكثر من ذلك فإن الخطاب الدينى الأصولى يستبعد الأعمال العقلية المستنيرة فى التراث ولا يأخذ بها، وذلك تمشياً مع أيديولوجيته أو مذهبه الرجعى، وبالتالى لا يولى أى أهمية لمذاهب المعتزلة والفلاسفة المسلمين القدماء بل ويرفضها – على الرغم من أنه يحتج أحياناً بل ويتفاخر بهذا الجانب من التراث، إلا أن هذا يحدث عند المقارنة بين حضارة المسلمين وأحوال أوروبا فى القرون الوسطى – واستعارة أوروبا لمنهج التفكير العقلى عند المسلمين فى مجال العلوم الطبيعية، وهذا التفاخر هو مجرد سبب أو مبرر يعتمده الخطاب الدينى الأصولى كى يسمح للمسلمين بالانتفاع بالثمرات المادية للتقدم العلمى الأوروبى والاستفادة بنتائج الثورة الصناعية هناك، بحجة أن المسلمين والفكر التجريبى الإسلامى لأسلافنا هو النواة التى أقام عليها الأوروبيون نهضتهم الصناعية وتقدمهم العلمى دون أن يتعدى ذلك بالطبع للدعوة للاستفادة من الثمرات الأخرى للتقدم الأوروبى وعلى الأخص فى المجال السياسى والثقافى، باعتبار أن هذه المنتجات تدخل ضمن السياسة العلمانية الكافرة التى انحرفت إليها الأفكار الأوروبية كنتيجة للحرب ضد الكنيسة.
وفى هذا يقول الشيخ سيد قطب أحد أهم رموز الاتجاه الأصولى أن الجيل القرآنى الفريد – جيل الصحابة قد تميز بأنه استقى معرفته وثقافته من القرآن وحده (ثم ما الذى حدث؟ اختلطت الينابيع وصبت فى النبع الذى استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم وأساطير الفرس وتصوراتهم وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات، واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم وعلم الكلام، كما اختلط بالفقه والأصول أيضا، وتخرج من ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل، فلم يتكرر ذلك الجيل)(4).
ومعنى ذلك أن الخطاب الدينى الأصولى يتعمد تقديس ما يراه متناسبا مع وجهة نظره أو متمشيا مع مذهبه من الاتجاهات السلفية المتأخرة، وإغفال أو عدم الاعتداد بالاتجاهات السلفية أو التراثية التى يكون للعقل دور فيها.
وهكذا نجد أن الخطاب الدينى الأصولى يسلك المنهج الانتقائى النفعى حال مناقشته لمعظم القضايا، وعلى سبيل المثال عند مناقشة واجب الجهاد يقوم على التسليم باجتهاد ابن القيم دون السماح بأى مجال للمناقشة، بل ويصر على اعتبار هذا الاجتهاد هو الإسلام ذاته خاصة إذا ما تعلق الأمر بموقف المسلمين من غيرهم، رغم تطرف هذا الرأى، باعتبار أن ذلك هو مايتفق مع طبيعة هذا الدين وأهدافه، لا كما يفهم المهزومون أمام الواقع العاجز وأمام هجوم المستشرقين الماكر(5).
وفى ذات الاتجاه نجد أن الخطاب الدينى الأصولى أو السلفى فى إطار هذا المسلك يقوم بالفصل بين العبادات والمعاملات، ويخرجون الأولى من مجال المصالح والمقاصد، وهو المسلك الذى قال به المحققون من أهل السلف، وفى هذا يقول الشيخ يوسف القرضاوى (وأنا مع المحققين من علماء المسلمين فى أن الأصل فى العبادات هو التعبد بها دون النظر إلى ما فيها من مصالح أو مقاصد، بخلاف ما يتعلق بالعادات والمعاملات، فلا يجوز أن يقال إن إنفاق المال على فقراء المسلمين أو على المشاريع الإسلامية النافعة أهم من فريضة الحج الأول، أو أن يقال إن التصدق بثمن هدى التمتع والقرآن فى الحج أولى من ذبح النسك الذى تعظم به شعائر الله، ولا يجوز أن يقال إن الضرائب الحديثة تغنى عن الزكاة ثالثة دعائم الإسلام)(6).
وواضح مدى جنوح هذا الرأى وتمسكه بالشكليات لأبعد مدى بالمخالفة لمقاصد الشريعة وأصولها الكلية، ذلك أنه لافرق بين العبادات والمعاملات عند كثير من علماء أصول الفقه فيما يتعلق باتجاهها إلى تحقيق النفع والصالح العام للناس باعتبار أن الإنسان والمجتمع الإسلامى هو الهدف والغاية فيما جاء به الدين، سواء من معاملات أو عبادات.
ولعل السبب فى هذا الفهم الذى يقول به الخطاب الأصولى يرجع لتمسكه الحرفى باجتهادات أهل السلف ووضعها فى مرتبة النصوص الدينية التى لا يجوز مناقشتها أو المجادلة فيها أو قبول أى اجتهاد يخالفها، وقد أدى ذلك لكثير من المفارقات الغريبة ذات الأثر السيئ على الدين – منها مثلا عدم جواز تطبيق حد السرقة على من يقوم بسرقة الأموال المملوكة للدولة لأن السارق له نصيب فيها، وطبقا لمفهوم السرقة وشروطها لدى الاتجاه الأصولى ألا يكون للسارق نصيب فى المال المسروق، وبالتالى فكل من يسرق أموالا عامة يفلت من العقوبة الحدية بحجة أن المال المسروق ليس خالصا للغير.
ويتفرع عن مسألة الاعتماد على التراث أو أعمال السلف، ويترتب عليها فى ذات الوقت، الاعتقاد بوجود تطابق بين مشكلات الماضى ومشكلات الحاضر والاعتقاد بإمكانية تطبيق ذات الحلول التى طبقت فى الماضى على مشكلات الحاضر، أو بمعنى آخر توظيف سلطة التراث والسلف ونصوصهم باعتبارها تحتل ذات القداسة الخاصة بالنصوص الأصلية الأولية فى حل مشكلات الجيل الحالى – وهو ما يعنى إهمال العامل أو البعد التاريخى فى الخطاب الدينى الأصولى، أو بمعنى آخر تعمد فهم النصوص الدينية اليوم بذات المفهوم الذى كان سائدا فى زمن نزولها، دون أى نظر لاختلاف الظروف أو الزمن. وهو فى ذلك يغفل أمرا جوهريا، هو أن النصوص الدينية تخاطب أساسا واقعا تاريخيا معينا كان السبب فى صدورها، ومن الطبيعى أن هذا الواقع التاريخى تتحدد من خلاله وعبر ظروفه دلالة تلك النصوص، ومن الطبيعى أن تلك الدلالة تكون قابلة لأن تتسع أوتضيق مع اختلاف تلك الظروف، وهو ما يعد مرونة فى التفسير، أو تحديد الدلالة بشرط مراعاة عدم التعارض مع الدلالة الأولى – وهذه المرونة التى نقول بها يحتمها أن الإسلام صالح لكل العصور والأزمنة، وليس محددا بزمن معين.
إلا أن الشيخ سيد قطب يرى غير ذلك، حيث قرر بضرورة انفصال المجتمع الإسلامى عن الواقع الذى يعيش فيه، كما انفصل عن الواقع الجاهلى الذى تربى فيه وشب عليه قبل الإسلام، إذ يقول ( لقد كان الرجل حين يدخل فى الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه فى الجاهلية، كان يشعر فى اللحظة التى يجىء فيها الإسلام أنه يبدأ عهدا جديدا منفصلا كل الانفصال عن حياته التى عاشها فى الجاهلية، كانت هناك عزلة كاملة فى صِلاته بالمجتمع الجاهلى من حوله وروابطه الاجتماعية، فهو قد انفصل نهائيا عن بيئته الجاهلية واتصل نهائيا ببيئته الإسلامية، حتى ولو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطى فى عالم التجارة والتعامل اليومى، فالعزلة الشعورية شىء والتعامل شىء آخر... ليست مهمتنا أن نتصالح مع واقع هذا المجتمع الجاهلى ولا أن ندين له بالولاء، فهو بهذه الصفة - صفة الجاهلية - غير قابل لأن نتصالح معه، إن مهمتنا أن نغير من أنفسنا أولا لنغير هذا المجتمع أخيرا، إن أولى الخطوات فى طريقنا أن نستعلى على هذا المجتمع الجاهلى وقيمه وتصوراته وألا نعتزل نحن عن قيمنا وتصوراتنا قليلا أو كثيرا لنلتقى معه فى منتصف الطريق، كلا إننا وإياه على مفرق الطريق، وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق... فنظرة الإسلام واضحة فى أن الحق لا يتعدد وأن ما عدا هذا فهو الضلال وهما غير قابلين للتلبس والامتزاج، وإنه إما حكم الله وإما حكم الجاهلية، لم يجئ الإسلام إذن ليربت على شهوات الناس الممثلة فى تصوراتهم وأنظمتهم وأوضاعهم وعاداتهم وتقاليدهم سواء منهم ما عاصر الإسلام، أو ما تخوض البشرية فيه الآن فى الشرق أو الغرب سواء، إنما جاء ليلغى هذا كله وينسخه نسخا ويقيم الحياة البشرية على أسسه (7).
وواضح أن هذا الرأى يتجاهل حقيقة أساسية وواضحة، هى أن حركة الإسلام منذ نشأته تؤكد على وجوب مراعاة الظروف الواقعية من خلال مراعاته التدرج فى الإصلاح والتغيير بل والتحريم أيضا، والأمثلة على ذلك واضحة فى تحريم الخمر وعلاقة الرجل بالمرأة وغيرهما، ولا يمكن لأحد أن يتجاهل الفروق الجوهرية بين أحوال وظروف المسلمين فى عصر الوحى ومثيلتها الحالية – كما أنه لا يمكن تصور إمكانية تخلى أى مسلم عن واقعه أو انفصاله عن ظروفه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، خاصة وأن الإسلام دين يسر – وأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يُخَيَّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن حراما. إلا أن الخطاب الأصولى يتجاهل كل هذه الحقائق، ويطلب من مسلمى القرن الواحد والعشرين، حيث ثورة الاتصالات والإنترنت والعولمة، أن يعيشوا حياة المسلمين الأوائل فى مكة ويثرب إبان عصور الإسلام الأولى – لكن كيف ولماذا؟ هذا هو السؤال الذى لا يوجد له إجابة.