كتاب " تردى الفكر الإسلامى المعاصر بين الأصولية المستبدة والعلمانية المستفزة " ، تأليف د. احمد طه ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب تردى الفكر الإسلامى المعاصر بين الأصولية المستبدة والعلمانية المستفزة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
تردى الفكر الإسلامى المعاصر بين الأصولية المستبدة والعلمانية المستفزة
1. التنوير
بدأت مرحلة التنوير فى أوروبا برفض فلاسفة عصر التنوير للسلطة التقليدية لرجال الدين والحلول اللاهوتية، واستبدالها بمراجعة المفاهيم الأساسية للإنسان وتنظيم المجتمع، من خلال ثمرات التقدم العلمى ورفض أى سلطة بخلاف سلطة العقل، وكان ذلك فى القرن السابع عشر عندما استند الفلاسفة لقاعدة اليقين التى أسسها ديكارت، فى الاعتماد على سلطة العقل فى إخضاع النصوص الدينية المسيحية، بما فيها من عقائد وأخلاق للتحليل العلمى النقدى.
وبظهور نظرية النسبية شرع هؤلاء الفلاسفة فى إعادة تقييم المبادئ والأفكار المسيحية السابقة حول العدل والحرية والملكية وانعكاسها على نسبية الأخلاق والقيم.
ووصل الأمر إلى نشأة علم نقد النصوص الإنجيلية داخل رجال الكنيسة أنفسهم، بهدف تحديد مدى صحة أو مصداقية تلك النصوص من خلال بحث عقلى مستقل عن أى أفكار كنيسية مسبقة، وكان هدف هؤلاء الفلاسفة معارضة الجو المظلم أو التعتيم الذى تفرضه الكنيسة من خلال المطالبة بالتسامح والعودة للطبيعة وتكريس مبدأ حرية العقيدة حتى ولو وصل الأمر للإلحاد، دون التعرض للاضطهاد أو الملاحقة من قبل الكنيسة – بل وصل الأمر إلى حد تبرئة الإنسان من تبعات الخطيئة الأولى التى فرضتها الكنيسة، ورفض ما تفرضه الكنيسة من إدانة للعواطف والمتعة أو السعادة الفردية كنوع من الحرمان أو التبتل، وهو الأمر الذى أدى برجال الدين المسيحى لاتهام هؤلاء الفلاسفة بالإلحاد والمادية بل والتآمر على المسيحية، وقد ظهر ذلك واضحا من خلال نصوص الخطاب الرسولى للبابا كليمون الثانى عشر (1652 – 1740 م) المعروف باسم (خلاص المسيحية)،وهو ذلك المرجع الذى يعبر عن الأصولية الكاثوليكية فى مواجهة دعاة التنوير، وكان حيازة أو الاطلاع على كتب فلاسفة التنوير مبررا للطرد من الكنيسة، وكان ذلك فى الواقع أحد الأسباب التى مهدت لقيام الثورة الفرنسية(20).
ذلك أن الثورة الفرنسية لم تكن تعارض الكنيسة أو الكرسى البابوى – فى بدايتها – وإنما اكتفت بنقد الكنيسية، إلا أن الأمور تطورت بإلغاء رجال الثورة للامتيازات الكنيسية فى أغسطس 1789 وما لحق ذلك من اعتقال الملك لويس السادس عشر فى أكتوبر من نفس العام ثم إعدامه 21/1/1793 والشروع فى تأميم ممتلكات رجال الكنيسة لحل الأزمة الاقتصادية فى البلاد وتحويلهم إلى موظفين تابعين للدولة ومنحهم مرتبات وخضوعهم للانتخابات المحلية، بل وإجبارهم على تأدية قسم الولاء للملك والدولة الفرنسية، وأن يستمدوا تعليماتهم من المجلس الثورى وليس من الكرسى البابوى فى روما، وهو ما أدى لقيام البابا بيوسى السادس بإعلان إدانته للدستور المدنى الجديد فى فرنسا واتهامه له بهدم الدين الكاثوليكى – مع إدانته للمبادئ التى أعلنتها الثورة خاصة تلك المتعلقة بإرساء الحريات المطلقة ومنها حرية التفكير فى المجالات الدينية، من خلال العقل البشرى غير المنضبط، وكان ذلك فى مارس 1791، ورفض البابا الاعتراف بالمؤسسات الدينية الفرنسية الجديدة باعتبارها انتهاكا للكرسى الرسولى ورفض استقبال ممثل الكنيسة الجديد التابع للثورة الفرنسية فى روما، بل وأعلن الانفصال رسميا فى مايو 1791، وقد قابل رجال الثورة ذلك الموقف بحرق دمية تمثل البابا، أو ما وصفوه بغول روما فى القصر الملكى.
وعلى أثر ذلك اندلعت الحرب الدينية فى فرنسا – وتم معاقبة واستبعاد رجال الكنيسة الذين رفضوا حلف اليمين بالولاء للوطن وليس لبابا روما – طبقا لما يقضى به الدستور الجديد الصادر فى 29 / 11/ 1791، وظهر أن الثورة الفرنسية باتت تمثل تهديدا لكافة الأنظمة الملكية الأوربية بعد أن امتدت ظلالها لكثير من الدول المجاورة. وفى الوقت الذى كان رجال الثورة يحاولون التخلص من طغيان رجال الكنيسة وعصر محاكم التفتيش، وما انطوى عليه من رعب، وقادت الكاثوليكية أول تحالف ضد الثورة التى واصل رجالها مسح كل آثار التسلط الكنيسى، لا فى فرنسا وحدها، بل امتدت الحرب إلى إيطاليا ذاتها التى تقدم فيها الجنرال بونابرت – والذى كان شابا ثوريا آنذاك – وتمكن من الوصول إلى ميلانو فى 15/5/1793، بل وتوجه إلى روما لإرهاب بؤرة التعصب مما اضطر معه الكرسى البابوى لعقد معاهدة صلح فى 19/2/1797 سميت معاهدة تولنتينو، تنازل بموجبها البابا عن أقاليم كبيرة كانت تخضع له مثل أنكونا وفينسين وأفينيون، فضلا عن قيامه بدفع مبلغ 31 مليونا لبونابرت مقابل تراجعه عن احتلال روما، وهكذا تصدع الكرسى البابوى، واستمرت انتصارات الثورة الفرنسية لا فى إيطاليا وحدها وإنما فى بلجيكا وعلى ضفاف الراين ودخلتإسبانيا كحليف لها(21).