كتاب " تردى الفكر الإسلامى المعاصر بين الأصولية المستبدة والعلمانية المستفزة " ، تأليف د. احمد طه ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب تردى الفكر الإسلامى المعاصر بين الأصولية المستبدة والعلمانية المستفزة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
تردى الفكر الإسلامى المعاصر بين الأصولية المستبدة والعلمانية المستفزة
رابعاً: توظيف مبدأ الحاكمية توظيفا نفعيا
الواقع أن هذا المبدأ يعد نتاجا للمبدأ السابق فى الخطاب الأصولى، وهو إهدار دور العقل والعلم فى الحياة.
ذلك أن الحاكمية تعنى الاحتكام إلى النصوص الدينية، أو بالمفهوم الأصولى تحكيم كتاب الله وسنة الرسول، وهو ما يؤدى بالضرورة لدى أتباع هذا المنهج إلى إلغاء العقل لحساب النص، ورفض الخلاف والتعددية أو بالأحرى محاولة نفى الإنسان وتغريبه فى الواقع، نتيجة للفصل الكامل بين الإلهى والإنسانى، هذا فى الوقت الذى يتم فيه تجاهل حقيقة ثابتة وهى أن الوحى الإلهى هو فى ذاته تنزيل أى خطاب أو حلقة وصل بين الله والإنسان – وكونه تنزيلا فإن ذلك يعنى أنه يتم من خلال لغة الإنسان – وهو ما يعنى أن الجهد العقلى للإنسان لازم وضرورى حتى يمكن فهم هذه النصوص الإلهية وإعمالها فى الواقع من خلال التفسير أو التأويل.
فالحاكمية بمفهوم الأصوليين إذن هى حق الحاكمية المطلقة التى ينشأ عنها حق التشريع للعباد، ووضع المناهج والقيم التى تقوم عليها حياتهم، وكل من ادعى لنفسه حق وضع مثل هذه المناهج أو القيم اللازمة لأى جماعة من الناس فقد ادعى حق الألوهية عليهم، وكل من وافقه على هذا الادعاء فقد اتخذ منه إلها من دون الله(11).
ولا قيام لمنهج إسلامى إلا بالإقرار بالألوهية لله وحده من خلال الحاكمية
- وبما يعنى أن هذا المنهج هو وحده القادر على تنظيم كل تفصيلات الحياة الواقعية اليومية للناس – وأن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها الثورة أو محاربة حاكمية البشر فى كل أنظمتها وأوضاعها وأشكالها والتمرد على أى وضع فى شتى بقاع الأرض يكون الحكم فيه للبشر بأى صورة، لأن ذلك يعنى أن الألوهية فى هذا الوضع تكون للبشر، باعتبار أن الحكم الذى يكون المرجع فيه للبشر أو اعتبار البشرية فيه مصدر السلطات يكون ذلك تأليها للبشر، يجعل بعضهم أربابا لبعض من دون الله. إن معنى شهادة أن لا إله إلا الله هو أنه لا حاكمية إلا لله ولا شريعة إلا من الله ولا سلطان لأحد على البشر إلا الله(12).
وتعود فكرة الحاكمية فى الأصل إلى حادثة رفع المصاحف على أسنة السيوف، والدعوة إلى تحكيم كتاب الله التى أطلقها الأمويون فى موقعة صفين – ولم تكن هذه الدعوة سوى مجرد حيلة أو خدعة لاختراق صفوف الخصوم وإثارة الخلافات بينهم وذلك بنقل الصراع بين الطرفين من المجال السياسى إلى المجال الدينى – وهو ما فطن له الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه، حيث قال لجنوده (امضوا على حقكم وصدقكم فى قتال عدوكم، فإن معاوية وعمرا بن العاص ليسا بأصحاب دين ولا قرآن، وأنا أعرف بهما منكم – قد صحبتهما أطفالا وصحبتهما رجالا، فكانا أشر أطفال وأشر الرجال – ويحكم، إنهم ما رفعوها لكم إلا خديعة ودهنا ومكيدة.... إن القرآن خط مسطور بين دفتين لا ينطق، إنما يتكلم به رجال(13).
وهكذا نرى أن محاولة إقحام الدين فى السياسة واستغلاله لتحقيق نزوات ومآرب شخصية، أى تسخير الدين تسخيرا نفعيا فى سبيل الصراع على السلطة، كانت هى اللبنة الأولى فى بناء مبدأ الحاكمية الذى يروج له الأصوليون، فى محاولة لإلغاء العقل لحساب النص – رغم أن النصوص لا تفصح بذاتها عن معناها أو دلالتها إنما يتعين أن ينطق بها الرجال كما قال الإمام على بن أبى طالب – إلا أن الخطاب الأصولى يروج فكرة الحاكمية، وصولا لاستئثار رجاله بسلطة تفسير النصوص وبيان دلالتها الدينية، باعتبارهم وحدهم القادرين على القيام بتلك المهمة بعيدا عن الأهواء والتحيزات وصولا إلى التمكين لحاكمية رجال الدين، وهو ما يعود بنا لسلطان الكهنوت الذى يحكم أوروبا فى العصور الوسطى باسم الله، من خلال رجال الدين المسيحى، وهى السلطة التى قامت النهضة الأوروبية الحديثة على أنقاضها من خلال تحرير العقل من سلطة الاحتكام إلى النصوص التى تحتكر الكنيسة تأويلها أو تفسيرها – على عكس ما حدث فى الثقافة العربية الإسلامية قديما حيث تم تدريجيا القضاء على الاعتزال بعد عصر المأمون – وحصار العقل الفلسفى فى دوائر ضيقة، إلى أن جاء أبو حامد الغزالى ووجه للعقل ضربة قاضية، وهو ما أدى لبداية عصر الانهيار السياسى والاجتماعى وتحكم العسكر فى أمور الدولة، وهو العصر الذى انتهى بالقضاء على الشكل الرمزى للدولة الإسلامية بسقوط بغداد، بل وانتهى الأمر، حتى بعد موت الغزالى بحوالى مائة سنة، باستعداء السلاطين من قبل رجال الدين على كل من يعمل بالفلسفة باعتبارها رأس الفساد والانحلال والضلال ومثار الزيغ والزندقة، وأن من تفلسف عميت عينه عن محاسن الشريعة المؤيدة بالبراهين والحجج الظاهرة، ومن تلبس بها تعليماً أو تعلماً جانبه الصواب ولازمه الخذلان والحرمان وسيطر عليه الشيطان، وبالتالى وجب على السلطان دفع شر هؤلاء عن المسلمين بل وإخراجهم من المدارس وإبعادهم لاتقاء شرهم والعقاب على الاشتغال بفكرهم حتى تخمد نارهم وتمحى آثارهم (14).
وهكذا نرى أن الخطاب الدينى السلفى ينتهى إلى التعارض مع مبادئ العقل اعتقاداً منه أنه يؤسس النقل رغم أنه ينفيه فى الواقع بنفى أساسه المعرفى – رغم أن العودة للإسلام تتم من خلال إعادة تأسيس العقل فى الفكر والثقافة، إن العقل هو الأساس فى تقبل الوحى.
ولقد ظل الخطاب الدينى بتياراته واتجاهاته المختلفة حريصاً على نفى أى تعارض بين الوحى والعقل يمكن أن ينشأ – بحكم حركة الواقع وثبات النصوص، واتفق الجميع تقريباً على أن النقل يثبت بالعقل وليس العكس – ولكن الخلاف كان فيما إذا كان العقل ينتهى دوره بعد أن قام بواجبه فى إثبات النقل، أم يستمر فى ممارسة هذا الدور من خلال فهم النصوص وتأويلها، وكان هذا الخلاف نظرياً حيث استمر الخطاب الدينى فى التأكيد على إثبات (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول)، وهو العنوان الذى اتخذه الفقيه الكبير ابن تيمية لواحد من أهم كتبه رغم أنه من الفقهاء الأصوليين المحافظين.
ولقد أسهم كثيراً من علماء الفقه وأصول الدين فى صياغة مجموعة من المبادئ الهامة كالقياس ومراعاة المقاصد والمصالح المرسلة فى نطاق فعالية العقل الإنسانى فى تفسير أو فهم النصوص وتأويلها، وظلت الثقافة العربية والإسلامية حية وغنية من خلال توجهها القائم على التعددية وإعطاء مساحة لحرية الفكر، وإن كان ذلك لم يستمر طويلا، حيث بدأ يسود الخطاب الأصولى بما يكرسه من مفهوم للحاكمية يؤدى إلى تحكم سلطوى من نوع خاص، بما يؤدى إليه من نفى أى تحرير جاء به الإسلام للعقل البشرى من سلطة الأساطير والأوهام التى كانت سائدة قبل ظهوره، بل ورفض التراث الفلسفى العقلى فى الثقافة الإسلامية، تلك التى وضع أسسها فلاسفة مسلمون أمثال ابن سيناء وابن رشد بحجة أن فلسفتهم هى مجرد ظلال للفلسفة الإغريقية ولا علاقة لها بالإسلام(15).
ويترتب على طرح مفهوم الحاكمية – فضلا عما سبق فى المجال السياسى وأنظمة الحكم - عدم الاعتراف بالنظام الديمقراطى، ومن ثم تعدد الأحزاب، فليس هناك تصور لوجود أى حزب سوى حزب واحد هو حزب الله، وهو ما يؤدى لتكريس أشد الأنظمة السياسية والجتماعية رجعية، بل إنه ينقلب على دعاته عندما يستغله بعض الحكام الانتهازيين من خلال تكريس الأنظمة الديكتاتورية كما هو سائد فى العالم العربى على وجه الخصوص – حيث أصبحت الأوطان بمن عليها ملكا للحكام – وأى خلاف فى الرأى معه يعد خيانة للوطن، وأى محاولة لمعارضته جريمة تهدد أمن الدولة، بل إن الأمر تعدى ذلك إلى محاولة تأليه الحاكم كما حدث مع الرئيس المصرى الراحل أنور السادات.
إن الإيمان بالله تعالى يقوم على التسليم بالحاكمية فى مجال العقيدة، أى على المستوى القلبى والشعورى الذى لا مجال فيه للاجتهاد أو التأويل أو تدخل العقل البشرى، لأنها محض علاقة شخصية بين العبد وربه، أما فى مجال التشريعات الخاصة بأمور الدنيا فإن أمر استنباطها يحتاج هنا للتأويل والاجتهاد، فهى مسائل تحتمل الخلاف بحسب اختلاف المصالح والعادات والظروف، فإذا ما أصر الخطاب الدينى لمد الحاكمية لهذا النطاق أيضا فإن ذلك سيقود حتما إلى العبودية لأحكام بعض البشر، وهم رجال الدين الذين يحتكرون لأنفسهم حق الفهم والتفسير والتأويل، ومن ثَمَّ فإن الخطاب الدينى سيجد نفسه فى إطار محاولته القضاء على تحكم البشر واستعبادهم لبعضهم البعض قد انتهى على المستوى التطبيقى إلى تحكم بشر من نوع آخر من خلال الخضوع لاجتهاداتهم، وهو ما يعنى ذات التقليد الذى نهى عنه الإسلام وحرمه، بل وصفه بعض الفقهاء بالشرك. والأمر الأكثر خطورة فى هذا المجال أن حاكمية البشر يمكن مقاومتها أو السعى لتغييرها من خلال وسائل النضال الإنسانية المختلفة، واستبدالها بأنظمة أكثر عدالة، أما مقاومة حاكمية الفقهاء فإنها توصف بالإلحاد والكفر والزندقة باعتباره تجديفا وهرطقة ضد الله، وبذلك يصبح مفهوم الحاكمية سلاحا يفقد الناس أى قدرة على تعديل أو تغيير واقعهم، لنقله الصراع من معركة بين البشر والبشر إلى معركة بين البشر والله(16).