أنت هنا

قراءة كتاب المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية

المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية

كتاب " المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية " ، تأليف د. عبد القادر عرابي ، والذي صدر عن دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر عام 2014 .

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
دار النشر:
الصفحة رقم: 1

إشكالية المنهج في العلوم الاجتماعية
توطئة
لقد أقام ما عرف بإشكالية المنهج في العلوم الاجتماعية الدنيا، ولم يقعدها، لأنها مرتبطة بطبيعة العقل الإنساني، وعلاقته المتوترة بالواقع من جهة، وكيفية تفسير هذا الواقع من جهة أخرى، وبوظائف المعرفة الإنسانية من جانب آخر. فالإنسان فكر؛ ومازال يفكر في عالمه منذ أن وجد على سطح البسيطة، وعندما يفكر في عالمه، فإنه يطور مناهج وطرق تفكيره، بمعنى أن علاقة العقل، أو المنهج بالواقع علاقة متغيرة.
انطلاقاً من ذلك فقد رافقت هذه الإشكالية الإنسان منذ القدم، وتمثلت في تطور مسيرة المعرفة وعلاقتها بالمجتمع عبر العصور، وتموجات هذه المسيرة عبر القراءات المختلفة للواقع، كالقراءة اللاهوتية، والميتافيزيقية، والفلسفية التاريخية، والوضعية وغيرها، وصولاً إلى القراءة العلمية، والتراكم المعرفي[5]، وقيام الثورات العلمية[6]. فلولا القفزات الإبستمولوجية التي أنجزها مفكرون عظام، مثل رينه ديكارت (1596-1650) في دراساته المختلفة، (مبادئ الفلسفة)، وخصوصاً في دراسته الموسومة بـ(مقال عن المنهج 1637)[7] وفرنسيس بيكون (1561-1676)، وجون ستوارت ميل (1806-1873)، وجون لوك، في دراسته عن (الحكومة المدنية)، وكانت ( Kant ) و(الأمر المطلق) بوصفه أساساً للأخلاق، وهيوم ورفضه للديكارتية، وما تبع ذلك من ثورات منهجية وطفرات إبستمولوجية، تمثلت في تحرير العقل الإنساني من أصفاد اللاهوت والفكر الظلامي للقرون الوسطى[8]، وإخراجه من ذلك الركود الفكري الذي تمثل في إرجاع الظواهر إلى تفسيرات ما وراء الطبيعة، وظهور مناهج متعددة كالوضعية والمنهج التاريخي والظاهراتي وغيرها، لولا ذلك لما كان للإنسانية أن تنتقل من عصور الظلام إلى العصر الحديث، ولما صار القلق المعرفي هو سمة العقل الإنساني. فالتقدم الحقيقي صنعه وتصنعه العقول القلقة، المفكرة، الباحثة، (الفائقة)[9]. وعليه فالتغير الاجتماعي هو تغير في العقول والمناهج والفكر. فما لم تتغير العقول ومناهج المعرفة، لن يتغير المجتمع.
إن العقول القلقة التي حاربت الفلسفة المدرسية في العصور الوسطى هي التي غيرت بنية العقل الإنساني ومهدت السبيل لمرحلة الحداثة. الشك المنهجي في الفكر الكنسي ونظرته إلى العالم، وإخضاع الرؤية اللاهوتية للعالم للعقل، كانت الخطوة الأولى في تحطيم هذه الهيمنة. فقد وضع ديكارت في بحثه (مقال عن المنهج لإحكام قيادة العقل وللبحث عن الحقيقة في العلوم)، اللبنة الأولى في بناء العصر الحديث، عندما تحدث عن أهمية العقل والعلم والفكر وتغييره، وعن أهمية الأفكار وأنها تحكم العالم، «أنا أفكر، إذن فأنا موجود»[10]، فديكارت يستدل على وجوده من خلال تفكيره، وكانت حكمته الثالثة في أن «أجتهد دائماً في أن أغالب نفسي لا أن أغالب الحظ، وأن أغير رغباتي، لا أن أغير نظام العالم، وبالجملة أن أتعود الاعتقاد بأننا لا نقدر إلا على أفكارنا، قدرة تامة»[11]، لذلك أنفق حياته «في تثقيف عقله، وفي معرفة الحقيقة»[12]، والأكثر من ذلك كله هو تصور ديكارت للإنسان بأنه كائن يفكر[13]، اتخذ من الشك منهجاً للمعرفة، «الشك هو الطريق إلى اليقين»[14]، وجعل هذا المنهج مؤلفاً من قواعد أربع يسلم بعضها إلى بعض[15]، وأولى هذه الحقائق هي «ألا أقبل شيئاً ما على أنه حق، ما لم أعرف يقيناً أنه كذلك: بمعنى أن أتجنب بعناية التهور، والسبق إلى الحكم قبل النظر»[16]. فالمنهج الديكارتي هو الذي يبيّن القواعد العملية التي يجب اتباعها لإحكام قيادة العقل على العلم. والعلم عنده استنباطي.
فالفكر يسبق الوجود، أو أن المدخل إلى دراسة الواقع هو مدخل عقلي. إن أهمية المنهج الديكارتي تكمن في كونه يؤكد على أن الإنسان عاقل ومفكر، ومادام كذلك فإنه لا يقبل إلاَّ بما يسلم به العقل من وقائع وحقائق، حتى إنَّ وجوده لا يتحقق، إلا من خلال التفكير والعقل.
من هنا تبدو لنا إشكالية المنهج بأنها علاقة العقل، أو العلوم العقلية بالواقع، ونظرتها إلى الواقع، من حيث القراءات المختلفة لعالم الإنسان، ولدور العلم ووظائفه، ومسؤوليته الاجتماعية. فالإشكالية إذن تدور حول مناهج تحصيل المعرفة، وعلاقة العلم بالمجتمع، ووظيفة العلم. وبهذا فهي تضرب بجذورها في التاريخ. فكلنا يعرف القراءات العقلية المختلفة للواقع عند الإغريق والمسلمين والمسيحيين، ودور المناهج في نشأة الحضارات وانهيارها بوصفها طريقة في الحياة والتفكير والسلوك، بمعنى أن نمط المناهج السائدة هو الذي يحدد موقفنا في الحياة، وطرق تفكيرنا، وطبيعة المجتمع المفتوح أو المغلق[17]. فالمناهج هي طرق التفكير والعمل. فمن المجتمعات ما انهارت بسبب انغلاق تفكيرها ومناهجها، أو ما أسماه مالك بن نبي بالأفكار الميتة[18]، وبيرغسون بالأخلاق المغلقة، مقابل الأخلاق المفتوحة، الأولى هي أخلاق المجتمعات التي وقف فيها التطور، والثانية كلها ذكاء وحركة وإبداع، وهي التي تفتح أمام الإنسانية أفقاً واسعاً لانهائياً[19]، ومنها ما نهض بفضل الثورات المنهجية التي طرأت عليها.
وهكذا لم تكن الحداثة الأوربية ممكنة لولا الثورة العقلية والمنهجية، والقطيعة الإبستمولوجية مع المناهج اللاهوتية، وتغيير المرجعيات المعرفية للفكر، وفك أسر العقل من الوصايات اللاهوتية وغيرها. وقد كان الفيلسوف الألماني كنت ( Kant ) أفضل من عبر عن ذلك عندما ذكر أن عصر التنوير هو العصر الذي خرج فيه العقل والإنسان من قصورهما، ومن الوصايات المفروضة عليهما. فمسيرة العلوم الاجتماعية هي إشكالية منهجية واجتماعية وفكرية، أي تغيير في علاقة العلم والمناهج والفكر بالواقع، وتحوُّلُ هذه العلاقة من علاقة راكدة إلى علاقة دينامية ونقدية، جعل العقل يصبح إيديولوجية المجتمعات الحديثة.
 

الصفحات