كتاب " المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية " ، تأليف د. عبد القادر عرابي ، والذي صدر عن دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر عام 2014 .
أنت هنا
قراءة كتاب المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية
إن علم الاجتماع مشروع نقدي، نشأ عن الثورة المزدوجة ( Hobsbaum )، وهي الثورة السياسية في فرنسة، والاقتصادية في إنجلترة، فهو نقد لتأثير الرأسمالية في البشر وعزلتهم، ولصناعة الإعلام فيهم، وتكوين الإنسان المتوجه خارجياً، كما يسميه ريسمان ( David Riesman ) في كتابه (الجماهير المنعزلة Die einsame Masse ) ، أو الإنسان ذي البعد الواحد لهربرت ماركوزه ( Herbert Marcuse ).
كانت الانتقادات المنهجية لهذه المدرسة المتعلقة بالحداثة ومشروعها إرهاصاتٍ لما بعد الحداثة. «فالحداثة ليست غيرَ هيمنة عقلانية ونفعية للطبيعة وللحاجات، إلى درجة أن العقل اندمج مع السلطة وأصبح بذلك طاغياً. فالحداثة طوعت لنفسها عقلاً أدواتياً، واتخذت من العقل أداة في خدمة رأس المال، وتخلت هكذا عن قوته النقدية. والعلم الحديث وجد نفسه بهذا الشكل في خدمة الفائدة التقنية بصفة كلية، وتحولت أسطورة العقلانية النفعية إلى قوة مادية»[40]. فهو أداتيٌّ بمعنيين: «معنى، أنه ملكة فردية ذاتية لتحصيل المعرفة تعتمد أساساً على القوة المعرفية الشخصية وفي مقدمتها الإحساس والتجربة. وهو ذاتي بمعنى أخلاقي أيضاً، أي إن اهتمامه الأساسي، إن لم يكن اهتمامَهُ الوحيد، هو المنفعة الذاتية»[41] ، وهو العقل الأداتيُّ البراغماتي التكنولوجي، وهو الذي حل بدلاً من العقل الموضوعي أو المعياري[42]، فهو يركز على الأهداف والمقاصد والغايات، وليس على الوسائل وحدها. وعلى كل حال، فإذا كان هوسرل قد اعتبر أزمة العلوم الأوربية أزمة منهجية، تتمثل في انفصالها عن عالم الإنسان والحياة والتاريخ، فإن إشكالية المنهج تظهر هنا في ثوب جديد، وهو نقد النماذج المنهجية. فثمة من يرى أن المنهج الماركسي قد انتهى، ولم يعد صالحاً لتفسير المجتمع. فالصراعات الطبقية قد انتهت وحلت محلها المنافسة الوظيفية، كما ذوبت الصناعة الطبقات، وبعثت النزعة الفردية، وبالتالي لم يعد المجتمع متصارعاً طبقياً، بل صار الصراع وظيفياً، مفيداً للمجتمع، لأنه يبعث المنافسة الفردية، والإبداع، وتنمية القدرات والمواهب، ويتيح الصعود في السلم الاجتماعي أمام الجميع، حسب قدراتهم وطاقاتهم. لقد كانت لكل القراءة المنهجية للعصر التي؛ قدمها المفكر الألماني رالف دارن دورف ( Dahrendrorf ) (1929-) في دراساته (الإنسان الاجتماعي) ( Homo sociologicus )، 1959، قراءةً منهجية في مستقبل المجتمع الصناعي، المتميز بالصراع الديمقراطي والمنافسة. وقد بحث في هذا الكتاب في تغير دور الإنسان بوصفه لاعب أدوار مكونة اجتماعياً، وفي طبيعة الإنسان، فهل هو إنسان اقتصادي، أم تاريخي، أم سياسي، أم غريزي... إلخ؟. فالتغير الاجتماعي يتطلب تغيراً في النماذج المنهجية، كما يرى دارن دورف. وهذا ما أحدثه التصنيع في المجتمعات الأوربية، إذ غير البنّى الاجتماعية والفكرية وطرق التفكير، وكذلك الأدوار الاجتماعية، ولذلك لم تعد المناهج السابقة قادرة على تفسير التغير الاجتماعي والثقافي.
وعلى الجانب الآخر نجد روّاد مدرسة فرنكفورت، الذين اكتوى معظمهم بنار الحرب العالمية الثانية، وذاقوا طعم الهجرة والتشريد، إن دراساتهم جاءت تعبيراً عن تجارب التهجير والمهجر، ونقداً إيديولوجياً للرأسمالية والشيوعية، ينصب في معظمه حول تركيزهما على الإنتاج وإهمالهما للإنسان. لكن هذه المدرسة لم تطور منهجاً واضحاً، وقصّرت في فهم التغيرات التي لحقت بالرأسمالية.
ومن الإشكاليات المنهجية في العلوم الاجتماعية مسألةُ الموضوعية والقيم في العلوم الاجتماعية، أو حكم الواقع والحكم القيمي، ومدى قيام الموضوعية في العلوم الاجتماعية، كما في العلوم الطبيعية. وقد حظيت هذه المسألة بالدراسة والتحليل عند ماكس فيبر في كتابه (دراسات في نظرية العلم) ( Schriften zur Wissenschaftslehre )، حيث تناول فيه موضوعية المعرفة السوسيولوجية الاجتماعية، والموضوعية وحرية القيم[43]، مميزاً بين الأحكام القيمية والمعرفة التجريبية، والعلاقة بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية، أو بين الإدراك الخارجي، الذي يفهم مواضيع الطبيعة سببياً، وبين الإدراك الداخلي الذي يفهم فيه الوعي ذاته من خلال المقارنة مع الوعي الآخر، كما هو الحال عند كانت، وعن ذلك طور دلتاي الفرق المنهجي، ففي العلوم الطبيعية يفسِّر سببياً، بينما يفهم ويؤول في العلوم العقلية والتاريخية[44]، أو كما يقول دلتاي: إن الفهم والتأويل هما منهج العلوم العقلية.
والمعروف أن دوركهايم قد طالب في (قواعد المنهج في علم الاجتماع) «بأنه يجب على عالم الاجتماع أن يتحرر من كل فكرة سابقة»[45]، بمعنى أنه يتعين فصل الإيديولوجية عن المنهجية، أو اتجاهات وفكر الباحث عن بحثه. وهذا الموضوع يعني الفصل بين الإيديولوجية والعلم، وعدم تدخل الباحثين في الحياة العامة، والابتعاد عن الأحكام القيمية، أو المسؤولية الأخلاقية للعالم تجاه المعرفة والمجتمع. لكن هذا ليس بالأمر الهين، إذ يقول جون غالتونغ في كتابه (المنهجية والإيديولوجيا) ( Methodologie und Ideologie ) «إن استخدام منهجية ما هو فعل سياسي، فهو يقر أو ينفي البناء الذي يعيش فيه الشعب عموماً والعلماء خصوصاً»[46]، وإن الخيار المنهجي هو خيار إيديولوجي[47].
وفي الحقيقة فإن مسألة الذاتية والموضوعية في العلوم الإنسانية هي المسألة التي شغلت روّاد الفكر والمنهج، وما تزال تشغل المجتمع العلمي، وتدور حول الموضوعية، وهل توجد موضوعية في العلوم الاجتماعية، أم أنه من المتعذر على الباحث التجرد من آرائه ومواقفه واتجاهاته وأحكامه القيمية، ومن الإيديولوجيا؟ وقد رأينا أن دوركهايم يؤكد على تحرر الباحث من ميوله وأفكاره، ويقول: «إن الخواص النوعية للظواهر الاجتماعية تشير إلى أن هذه الظواهر ذات طبيعة واقعية، وتكفي تلك الطبيعة الواقعية للبرهنة على موضوعيتها»[48].
وبالرغم من الادّعاء بالعلمية «فقد طبق كل عالم اجتماع العقل العلمي بطريقة خاصة جداً به. فأحياناً كان هذا العقل يدرك بكونِهِ قانوناً كشفياً، وملكة نفسية تعطي للإنسان قدرات إدراكية نوعية، وأحياناً كان يدرك بصفته الأساس الأخير للأشياء أو مبرر وجودها، وأحياناً أخرى يدرك وسيلةً لإنتاج الحقيقة أو لإيجاد البراهين»[49].
وهكذا نصل إلى أن إشكالية العلوم الاجتماعية تعود إلى اختلاف الظاهرة الإنسانية عن الطبيعية، وإلى تعذر قيام الموضوعية في العلوم الاجتماعية. «وقد تعددت الآراء إزاء موضوع الدراسة الإنساني والاجتماعي». فالبعض رأى «أن الظاهرة الاجتماعية في بساطة الواقعة الطبيعية، ومن ثم تخضع للدراسة العلمية الدقيقة»، والبعض آخر جاهر بتعقدها وصعوبة إخضاعها للمنهج العلمي. وبين الطرفين ظهرت آراء متعددة، بعضها يعترف بصعوبة مادة الدراسة مع إمكان دراستها دراسة علمية، والبعض آخر وصل إلى درجة من التطرف جعله يرفض النظر إليها على أنها علومٌ على الإطلاق، بحجة غياب الاطراد والتجربة ونسبية قوانينها[50]. فبينما يؤكد الفريق الأول على أن الظاهرة الاجتماعية كالطبيعية، «يقول الاتجاه الثاني بتميز الظاهرة الاجتماعية عن الطبيعية، وأبرز ما يميز الظاهرة الاجتماعية هو تعقدها بسبب قلة تكرارها..، علاوة على تغيرها»[51]. «من قبيل صعوبة التكميم واستخدام ألفاظ كيفية، ومن ثم صعوبة صياغة قوانين دقيقة، وأن الباحث جزء لا يتجزأ من الظاهرة التي يبحثها، فلابد أن يشعر تجاهها بميول وأهواء معينة، تفرضها الإيديولوجية السياسية والاجتماعية والبنية الثقافية والبيئة الحضارية التي ينتمي إليها، فتؤدي إلى إضفاء الإسقاطات التقويمية أو الأحكام الخلقية على مادة بحثه، مما يناقض طبيعة العلم الذي يأبى تدخل عنصر القيمة المراوغ الفضفاض، وهو عنصر، يصعب استئصاله من البحوث الإنسانية، فثمة قيم الباحث التي تؤثر في أحكامه، بل وفي مجرد رصده للوقائع، وثمة القيم الموجهة لموضوع البحث ذاته، هذا فضلاً عن تعقد الظواهر الإنسانية والاجتماعية»[52].
إن مشكلة العلوم الإنسانية تكمن في عاملين أساسيين، كما يرى قنصوه وهما:
أولاً- «نوعية الظاهرة الإنسانية والاجتماعية»، والعلاقة بين الباحث وموضوع بحثه... ويرتد هذان الاختلافان إلى تصورين آخرين لا ينتميان إلى مجال العلم، بل ينتميان إلى الفلسفة والإيديولوجية، وتصور كل فريق لطبيعة الإنسان، وتصور كل منهم لطبيعة العلم. ولذلك جاء تباين مناهجهم انعكاساً لتباين أنساقهم الفلسفية ومنظوراتهم الإيديولوجية.
وما يبدو اختلافاً في المنهج إنما هو في نهاية الأمر اختلاف في المنحى النظري»[53]. فالاختلاف هو اختلاف في المنظور الإيديولوجي. «إن المغالاة في الموضوعية.. معناها إغفال الناس أنفسهم ومعاملتهم معاملة الأشياء الجامدة[54]. ولهذا يتعذر تحقيق الموضوعية، ولذلك تعددت المناهج والنظريات بتعدد الاتجاهات، لأنه من المتعذر التخلص من الذاتية في البحث، أو ما أسماه بيكن (1561-1676) بأوهام الكهف»، وهي «أوهام ناشئة من الطبيعة الفردية لكل منا.... ولأن هذه الأوهام ناشئة تأتي من التكوين الخاص للفرد، فإنها تختلف باختلاف العوامل الوراثية والبيئية والثقافية التي أثرت في الفرد، ولذلك فإنها شديدة التنوع من فرد إلى آخر.. فالكهف ليس بمنزلة الجهل أو النقص الأساسي الكامن في الطبيعة البشرية، فكهف بيكن يتعلق بالإنسان الفرد، وبعبارة أخرى ليس الناس كلهم داخل كهف واحد، - هو الجهل المتأصل في نفوسهم - كما ذهب أفلاطون - بل إن لكل فرد كهفه الخاص ينظر من خلاله إلى الأشياء»[55]. «لقد كانت النظريات الاجتماعية أكثر من سواها من نظريات فروع العلوم الإنسانية - نهباً مستباحاً للمؤثرات الثقافية الخارجية، فأصبحت في حقيقتها خليطاً يجمع بين الإيديولوجيا والفلسفة والقيم الحضارية، بل والأهدافِ المعيارية وتصورات الحياة اليومية وأحكام الحس المشترك»[56].
وبهذا فلا محل للظن بأي وحدة بين منهجي العلوم الطبيعية والإنسانية[57]، يقول ملز: «إن الخلافات الحادة بين علماء الاجتماع ليست بين الذين قد يلاحظون بدون تفكير، والذين قد يفكرون دون ملاحظة، لكن الخلافات أقرب لأن تكون فيما يتعلق بماهية أنواع التفكير، وماهية أنواع الملاحظة، وماهية أنواع الروابط، إذا كانت هناك بين الاثنين، أي بين التفكير والملاحظة»[58]. الملاحظة دون تفكير، أو تفكير دون ملاحظة، ليست هي المشكلة، لكن المشكلة، كما يراها ملز، تكمن في العلاقة بين التفكير والملاحظة، أو بين المنهجين الكيفي والكمي. وهذا ما يؤكد عليه عالم الاجتماع الألماني سيغفريد لمنك ( Lamnek ) في كتابه المرجعي (البحث الاجتماعي الكيفي)، حيث يذكر فيه الخلافات بين المنهجين الكمي والكيفي، وهما التفسير مقابل الفهم، والبحث عن العلاقة القانونية بين الظواهر مقابل العلاقة التاريخية، واختبار النظريات مقابل تطويرها، والاستقراء مقابل الاستنباط، والموضوعية مقابل الذاتية، واللاتاريخية مقابل التاريخية، والانغلاق مقابل الانفتاح، والمسافة عن البحث مقابل التماهي مع البحث، والمنهج الصارم الجامد مقابل المنهج المرن، والجزئية مقابل الكلية... إلخ[59]. لن نسهب في شرح هذه الفروق، التي بحثها كل من كارل بوبر في كتابه (عقم المذهب التاريخي)، وكون في كتابه (بنية الثورات العلمية)، ولكننا نكتفي بالقول إنَّ الخلاف يدور حول القدرات التفسيرية والوظائف المعرفية لكل من هذين الاتجاهين.
وقد اختزل بعضٌ هذه الإشكاليات إلى:
1- «هل يمكن إقامة علم لدراسة المجتمع بالمعنى الدقيق لمصطلح العلم؟
2- هل يمكن تطبيق المنهج العلمي كما هو مستخدم في العلوم الطبيعية عند دراسة الظواهر والنظم الاجتماعية؟
3- هل تعد الظاهرة الاجتماعية واقعة موضوعية أم ظاهرة إنسانية؟ وهل يمكن دراستها من خلال إجراء التجارب والملاحظات المضبوطة، أو أنها تقتضي استخدام منهج آخر يقوم على أساس الفهم المتعاطف، على حد تعبير فيبر؟
4- هل من الأفضل الانطلاق في دراسة الواقع الاجتماعي استناداً إلى نظريات مسبقة يمكن في ضوئها تفسير المادة الميدانية، أو من الأفضل أن نعالج الواقع دون الاستناد إلى مثل هذا البناء النظري المسبق؟
5- هل يمكن لعلم الاجتماع وهو يتعرض لقضايا الإنسان داخل المجتمع أن يكون نسقاً أو نظاماً علمياً موضوعياً تماماً، أو خالياً من القيم؟
6- ثم ماذا عن الضبط المنهجي في علم الاجتماع؟ هل يمكن إجراء دراسات مضبوطة منهجياً في علم الاجتماع عند تناولنا للظواهر الاجتماعية، بنفس القدر من الضبط المتحقق عند دراسة الظواهر الطبيعية؟
وأخيراً ماذا عن التعميم والتوصل إلى قوانين في هذا العلم»[60].
وماذا عن النظرية؟ وهل هي خلاصة البحث والفكر الإنساني، أم ترف زائد وهل يمكن للنظرية ألاَّ تتولد عن منطق إمبريقي فقط، أو أنها نتاج الوجود الاجتماعي الكلي لعلماء الاجتماع؟.
وإضافة إلى ما سبق يمكن اختزال الاختلاف إلى التالي:
1- هل هناك علم واحد أو علوم، منهج واحد أو مناهج؟
2- منهج واحد أو تعددية منهجية - النزعة الطبيعية المنهجية
3- موضوعية أو ذاتية
4- التزام قيمي أو حياد قيمي
5- الظاهرة الاجتماعية والظاهرة الطبيعية
6- علاقة النظرية بالبحث
7- رؤية المجتمع وفاق أو صراع
8- الإيديولوجيا
9- رؤية الإنسان
10-العلم والإنسان
11-علم الاجتماع علم ووعي المجتمع[61]
إن ما يراه البعض إشكاليةَ العلوم الاجتماعية، هو ما يميزها عن العلوم الطبيعية، وهي أنها علوم تقويمية، إنسانية، معبرة عن رؤى واضعيها وأفكارهم. فالنماذج النظرية التي تعبر عن التطور الاجتماعي البعيد المدى، كما هي عند كونت وماركس وآخرين، تعتمد إلى حد كبير على فرضيات، تتأثر باتجاهاتهم الإيديولوجية بالدرجة الأولى، فلولا هذه المثل والقيم لما تضمنت النظريات تلك الرؤى الطوباوية. ويأخذ إلياس « Norbert Elias ، تلميذ منهايم، على النظريات المعاصرة بأنها تهمل الصيرورة والتطور بعيد المدى، و«هي نظريات الحالة الراهنة»[62]، ومن هنا جاء اختلاف التنظير فيها. نظريات الحالة الراهنة دون أفق نظري، تبقى قليلة الأهمية، والاهتمام بالشاهد الإمبريقي دون تجارب المفكرين غير ممكن في علم الاجتماع. «ويرى بعض المفكرين أن لكل نظرية اجتماعية ملاءمتها السياسية والشخصية، وأنها لا تنتج أو تتولد عن منطق أو شاهد إمبريقي فقط، بل هي نتاج الوجود الاجتماعي الكلي لعلماء الاجتماع. ولذلك كان غياب الوعي بالذات من جانب علماء الاجتماع يشكل في نظره أهم نقاط الضعف في علم الاجتماع الأكاديمي»[63].
يقول جيوفاني بوسينو في كتابه القَيِّم (نقد المعرفة في علم الاجتماع): إن ما سبق يفسر لماذا لا توجد نظريات اجتماعية موحدة وشاملة، ولماذا لا توجد حلول اجتماعية نهائية للمشاكل الاجتماعية ولقضايا التنظيم الاجتماعي؛ ولماذا تتغير المسائل الاجتماعية، أو تظهر ثانية تبعاً للتصورات، ووجهات النظر، والمشاريع الاجتماعية المتغيرة؛ ولماذا تكون مفاهيم علم الاجتماع وتصوراته استعارات غالباً. لكل هذه الأسباب، لا يوجد في علم الاجتماع تطابق ثنائي المعنى بين الوقائع والمقترحات النظرية، ولهذا السبب تتم صياغة مقترحات غير متعادلة حسب المناطق والعصور، وحسب الأوضاع والشروط الخاصة والنوعية. إن النظريات الاجتماعية، المتغيرة والمؤقتة، والمرتبطة بنشاطات عملية - إدراكية للبشر وللمجموعات الاجتماعية، تولد وقائع، لكنها لا تتطابق أبداً مع الوقائع، وهي لم تثبت أبداً صحتها إلاَّ بواسطة وقائع منتجة من قبلها. إن علم الاجتماع هو سجين عالم دلالي له سور مطلق. وربما تؤدي وفاة فكرة المجتمع إلى توجيه علم الاجتماع ثانية نحو دراسة المشاكل الحقيقية، المشاكل التي تكمن في أساس تأسيس التشكيلات الاجتماعية، وتشجع من ثم على ولادة علم حقيقي للمجتمع[64]. فالنقد في علم الاجتماع تركز حول النقد الإبستمولوجي، وهو الذي يعنى بمبادئ إنتاج المعارف وبشروط إمكانها، وبالنقد النظري، والمنهجي[65]. هذه إشكالية المناهج في عصر الحداثة، لكن ما إشكالياتها في ما بعد الحداثة؟ هل كانت إشكالية المنهج مجرد مناقشات لاهوتية وبيزنطية؟ أم أنها ضرورة من ضرورات المعرفة؟ ومع أن مفهوم ما بعد الحداثة مازال إشكالياً، إلا أن عديداً من العلماء قد كتبوا فيه، مثل دانيل بل « Daniel Bell ، (المولود 1919-) في كتابه (المجتمع ما بعد الصناعي)، الذي يتسم بتوسع قطاع الخدمات، والنسبة المتنامية للعاملين في القطاع الثالث، والشركات المتعددة الجنسية، ودور العلم كعامل إنتاج، ونمو الصناعات المستند على العلم، والنمو الموازي للجامعات... إلخ، والإنسان الآلي، والمعلوماتية، والقيم ما بعد المادية، وبأوقات الفراغ، والعلم كمادة أولية، وولادة الصفوة الذكية. ويتسم هذا المجتمع أيضاً بتغير بنية العمل، وانتشار ظاهرة الفردية، وتكهل هذه المجتمعات، والعقلانية[66]، «وتنهض قضية بل ( Bell ) الأساسية على أن المجتمع الحديث ينتظم في ثلاثة مجالات مستقلة، ولكنها مترابطة فيما بينها، وهي الاقتصاد والسياسة والثقافة. أما السياسة فتنتظم توزيع القوة والمصالح المختلفة في المجتمع، فيما تمثل الثقافة مجال تحقيق الذات، فتشيد المعاني من خلال القدرة التعبيرية للفن والطقوس. هذا في الوقت الذي يرتبط فيه المجال الاقتصادي بالبناء الاجتماعي. ويرى (بل) أن هذه المجالات الثلاثة تحكمها مجموعة من المبادئ المحورية المختلفة: كمبدأ تحقيق الذات في المجال الثقافي، ومبدأ المساواة في المجال السياسي، ومبدأ الكفاية في المجال الاقتصادي»[67]. ويتسم المجتمع ما بعد الصناعي بالنمو الزائد للمهن الفنية العليا، وبظهور طبقة جديدة من العلماء والرياضيين والفيزيائيين، الذين يشكلون طبقة المعرفة.
«وإذا كان رأس المال رمز الثورة الصناعية، فإن المعلومات رمز العصر المعلوماتي. وهذا يعني أن الذهنية هي الأساس في هذه الثورة التي أصبح فيها الإنسان المركز الذي تدور حوله التقنية الحديثة.... وقد خلقت ثورة المعلومات بيروقراطية حادة وغير مرئية.. وحولت المواطن إلى مواطن معلومات وخدمات»[68]. فكما قطعت الحداثة مع العقل الميتافيزيقي، فقد قطعت مابعد الحداثة معرفياً مع علم اجتماع الحداثة، الذي ركز على المجتمع الصناعي، وعلى علاقة الفرد بالمجتمع، «فهناك من يعتقد أن الفرد هو قاعدة المجتمع ولبنته الأساسية، وأنه الحقيقة الواقعية التي تصدر عن كيانها وأفعالها حياة المجتمع، فالفرد من منظور هذا الموقف ذو وجود مستقل بكيانه وطاقاته عن مجتمعه، مستقل بهويته الوجودية، مختلف بها عمّا سواه من الأفراد، وأن المجتمع ليس سوى حصيلة مجموع أفراده وتعاقدهم الاجتماعي على التعايش المشترك. وهناك من يعتقد عكس ذلك، فيرى أن المجتمع هو الحقيقة الواقعية التي يتشخص الفرد في بوتقتها، وأن الفرد ليس سوى جزء من كل، ومنفعل بهذا الكل، وأن هويته جزء من هوية مجتمعه»[69]، أو كما تقول كلمات دون الشهيرة «لا يوجد رجل كالجزيرة، قائم بذاته، كل رجل جزء من القارة، جزء من الأصل»[70].
وهكذا نرى أن ما بعد الحداثة تنهي هموم الحداثة، وتنصرف لهمومها. فإذا كانت الحداثة تعني أن الإنسان يصنع تاريخه، فإن ما بعد الحداثة هو طوباوية سلبية، «وهي صورة عكسية للطوباويات الخلاقة الإيجابية التي تدعو إلى تغيير العالم وتطويره»[71].
يبقى أن نقول: إن إشكالية المناهج ضرورة معرفية، «ففي كل زمن ترتبط المعرفة بمستوى المناهج المطبقة، ذلك أن المعرفة المستقبلية تتعلق بتطور المناهج اليوم»[72].
وكما شكلت المناهج الكيفية، أو ما يعرف بالمناهج الرخوة، مقارنة بالمناهج الكمية أو الصعبة، الأسس الفكرية والمعرفية للحداثة، فإن المناهج الرخوة هي التي تكتشف عالم ما بعد الحداثة. فالمصلحة المعرفية للمناهج الكيفية تختلف عن الكمية. ومع ذلك، فإننا نؤكد على أن مناهج البحث النظري ومناهج البحث الإمبريقي يكمل بعضهما الآخر[73].
ولا يتفق هذا المنطق مع دراسات فير آبند ( Feyerabend ) في كتابه (ضد الضغط المنهجي) «وأطروحته حول نظرية معرفية فوضوية، عندما يقول: "لاتعتد بالتعليمات المنهجية، وافعل ما يقول لك الحس"[74].

